ليست المرّة الأولى التي تفقد المجموعات المسلحة توازنها في سوريا، وليست المرّة الأولى التي تمنى فيها بالخسارة عشية استحقاقٍ سياسي مفصلي، فتفلت من يدها أوراق الضغط على القيادة السورية لانتزاع التنازلات منها.
تكرّرت هذه العملية أكثر من مرّة، ولم تتراجع دمشق عن مواقفها، بل من يراقب سيرورة المطالب وتراجعها الى الحد الادنى يتأكد ان ما يعرض على المعارضة الان اقل من سابقه، وحتى الاتفاق الروسي الاميركي لوقف اطلاق النار صبّ في صالح الجيش السوري وان ترك للمعارضة ان تلتقط انفاسها الاخيرة.
في ظل الحرب، تبدّلت موازين القوى بين الجيش السوري والارهابيين أكثر من مرّة. في البداية، كانت الغلبة للجيش السوري. لكن مع دخول العناصر الاجنبية وانتشارها في ارجاء سوريا تحت راية "جبهة النصرة"، بدأ ميزان القوى يميل لصالح الارهابيين، وعليه عقدت الدول المعنية بالحرب مؤتمر جنيف الاول في خريف العام 2013 وحددت شروطها لتشكيل حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة، وتقرّر آنذاك عقد مؤتمر جنيف 2 في العام 2013.
في ربيع العام 2013، استعاد الجيش السوري وحلفاؤه السيطرة على القصير، فأسقطوا التوازن مع الارهابيين ومعهم تحضيرات مؤتمر جنيف 2. انذاك كانت تسري في اروقة دمشق بأن القيادة يمكن ان تقبل بمشاركة المعارضة الخارجية بثلث الحكومة وبوزارات وازنة لكن ليست سيادية، الا ان المعارضة رفضت العرض في وقت كانت تخسر على الارض في القلمون والغوطة الشرقية.
لم يَطُلْ زمن التراجع العسكري لـ"النصرة" والمسلحين، اذ اعلن في منتصف العام 2013 تنظيم "داعش" عن وجوده في سوريا ليعود ويعدل موازين القوى قليلاً، ومن ثم عقد مؤتمر جنيف 2 على وقع حضور رسمي سوري وقرارات دولية تعترف بوجود ارهابيين في سوريا.
يقول مسؤول سوري رفيع المستوى ان ما بعد صدور القرارات الدولية المتعلقة بالارهابيين، "القصة تغيرت" واصبحنا في مرحلة جديدة لم تنجلِ صورتها الا بعد الدخول الروسي في الحرب مباشرة. حينها بدا واضحًا ان موازين القوى لن تعدل ابدا الا بدخول الولايات المتحدة مباشرة بالحرب ضد غريمها السابق وهو امر غير وارد مطلقا.
على مدى اسابيع ووسط الانهيار الكبير للمسلحين، وضعت المملكة السعودية وتركيا خياراتهما على الطاولة عبر التلويح بالدخول البري لكن السؤال من اين وكيف وضد من؟، او ارسال صواريخ مضادة للطائرات، والسؤال من يتجرأ ان يزود المسلحين بها؟
ادركت انقرة والرياض ان المعادلة تغيرت برمتها لا بل انقلب السحر على الساحر، الاتراك الذين يدعمون المسلحين اصبحوا في ورطة اقتراب الاكراد من حدودهم من شمال حلب الى اقصى الحسكة، المملكة السعودية لم يعد لديها خيار سوى وقف القتال للحفاظ على وجود المعارضة والموافقة على استمرار قتال "النصرة" و"داعش" العصب الابرز للارهابيين وبالتالي افساح المجال للجيش السوري وحلفائه حشد قواتهم باتجاه "داعش" ومنحهم فرصة انهاء وجود اقوى تنظيم ارهابي في المنطقة او بحد ادنى انهاكه.
لا يعني وقف العمليات العدائية وقف العمليات العسكرية، بل وفقا لمصادر عسكرية سورية، فان العمليات ستتكثف باتجاه الرقة وريف حلب الشرقي، ويشير المصدر الى ان المشهد انقلب، ففي الواقع عادة ما تحاول المعارضة ان تضغط لرفع مطالبها الا انها تستجدي وقف القتال ما يعني انها ستدخل المفاوضات دون اوراق ضغط، وانها عاجلا ام اجلا سترضخ للمشاركة في حكومة وحدة وطنية في ظل مجلس شعب منتخب بعد شهر ونصف ودون دستور جديد او تعديلات دستورية، وكل ما هو ممكن مشاركة المعارضة في حكومة وبشرط عدم تمثيل مجموعات ارهابية.
عملياً، تعثرت الجدولة التي كانت مقررة قبل جنيف بعد رفض المعارضة المشاركة، لجهة أن تتمّ المحادثات ضمن مهلة ستة أشهر على عدة جولات، علمًا أنّ الجولة الثانية لن تنطلق قبل تلبية مطلب الوفد الرسمي السوري بارسال اسماء المحاورين من الطرف الاخر. هي لعبة الوقت التي يجيدها السوريون اذ حاليا الوقت في صالح الجيش السوري وان ورقة الضغط لم تعد في العسكر بل في الامن والتفجيرات والعمليات الامنية، ورسالة "داعش" كانت واضحة بان لديها القدرة على الخرق في عمق المناطق المؤيدة واغلاق طريق رئيسي وإن تراجع نفوذها.
في المحصلة المعركة لم تنته وان كانت تشهد نهاياتها، جولة سياسية جديدة ومن بعدها جولة عنف محدودة الاطراف والمزيد من الدمار، مشاركة المعارضة ليست محتومة في الحكومة والتغييرات بحاجة للمزيد من الوقت والى ذلك ستسمر القدرة الشرائية في تراجعها والسوريون الى مزيد من المعاناة اليومية. اما الرابح الاكبر في الحرب، فهم "الاكراد" اذ تجمع واشنطن وموسكو على دعمهم واقامة ادارة ذاتية لهم من الحسكة الى ريف حلب الشمالي!