بين فترة وأخرى تروج نظرية أن "الرئيس اللبناني هو صناعة لبنانية". هذه النظرية فيها الكثير من التبسيط وأحيانا السذاجة السياسية. فإنتاج الرئيس لبنانيًا يحتاج إلى قرار مستقل وإلى بنية اجتماعية – وطنية وإلى ولاءات فعلية لفكرة الدولة. والوحيد بين رؤساء الجمهورية الذين أسسوا لمثل هذا التوجه هو الرئيس الراحل الجنرال فؤاد شهاب الذي سعى إلى توسيع استقلالية الدولة والمؤسسات عن طغيان الطبقة الإقطاعية السياسية... لكن محاولته الإصلاحية أجهز عليها النظام الطائفي والحرب الأهلية التي أنتجت نظام محاصصة طوائفية أكثر بشاعة من النظام السياسي الذي حاول الجنرال إصلاحه وترميمه.
في الخطاب السياسي لفريقي "8 آذار" و"14 آذار" انتخاب الرئيس رهن بـ"الظروف". لا أحد يُعرِّف ماذا يقصد بها، هل هي ظروف لبنانية أم ظروف إقليمية ودولية. والتعمية مقصودة يتم تغليفها بـ"الوقت المناسب"، ذلك أن ثمة ميلاً لبنانيًا بالمبالغة بأدوار اللبنانيين كأنهم محور الكون. فعلى هامش السجالات الدائرة حول "الرئيس المرتقب" تسمع كلامًا من سياسيين لبنانيين بضرورة وقف تدخل السفراء الأجانب ووقف تصريحاتهم في مرحلة ما بعد الرئاسة باعتبار أن الرئيس سيكون منتوجًا لبنانيًا يعزز منسوب "النزعة اللبنانية". تبسيط ما بعده تبسيط. فالعبور إلى إمكانية "لجم السفراء" عن التدخل تفترض شروطاً غير متوفرة وتقتضي جهدا يتجاوز مسألة انتخاب الرئيس بالخروج من الطوائفية السياسية الذي يحتاج إلى وقت طويل وإلى سلم أهلي فعلي وإلى "مواطنية واحدة" ليست في المتناول في المدى القريب والمتوسط إذ أن واقع الحال يعزز من فكرة المواطنية الطوائفية وما تستدعيه من "حمايات خارجية إقليمية ودولية" ومن تقليص للهوية اللبنانية الجامعة.
أمر يلفت الإنتباه أن المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان سيغريد كاغ سبرت ألغاز الوضع اللبناني في وقت قصير على إقامتها في بيروت. ففي مقابلة لها مع "النهار"، أشارت إلى أن "الإستقرار في لبنان ليس أمرا مسلما به إذ أن هناك نقاط ضغط تحت السطح مثيرة للقلق وخطيرة... يجب ألا يترك لبنان ينزلق أكثر وإلا سيكون الأمر متأخرا لإنقاذه.." مقاربة سيغريد كاغ تحتكم إلى الموضوعية والنظرة الثاقبة وهي "رسالة" إلى أن "شراء الوقت" ليس بالضرورة في صالح لبنان طالما أن إمكانية الإنهيار الداخلي واردة في ظل حالة الشلل المتمكنة من الدولة ومؤسساتها رغم محاولات الإنقاذ التي يقوم بها رئيسا المجلس النيابي نبيه بري والحكومة تمام سلام ورغم الجهود الكبيرة التي تبذلها المؤسسة العسكرية وقائدها جان قهوجي وحاكم مصرف لبنان الدكتور رياض سلامة للحفاظ على الإستقرار الأمني والمالي.
والواضح أن هناك مبالغات كثيرة في ما هو مطلوب من الرئيس اللبناني المرتقب. ويذكّر بالجدل البيزنطي حول أصل الملائكة. فكأن الرئيس اللبناني هو الذي يوفّـر "حيادية لبنان" أو وقف الهدر والفساد و"استعادة" الدور المسيحي في توازن السلطة واستطرادا في تسمية رئيس الحكومة.
الإضفاء على الرئيس مواصفات لا يملكها خارج تعديل الدستور هو تسويق للأوهام يشابه "المنطق" الذي يرى في لبنان "جزيرة معزولة عن واقع المنطقة ومشاكلها ومتاعبها وتعقيداتها"... فالظروف المحيطة بلبنان كانت حاضرة في كل أزماته وحروبه وحضوره في المعادلات. فالإشتباك الايراني – السعودي طرف في المعادلة اللبنانية وعائق أمام الحياد. ومشروع "الدولة الإسلامية" من "داعش" له حساباته اللبنانية سواء كان لبنان محايدا أم غير محايد. والأزمة السورية تجد تواصلها مع "الداخل اللبناني" بحكم التداخل الجغرافي والبشري في السلب وفي الإيجاب. و"التكاذب اللبناني" تفسره حكمة أحد الحكماء "كثرة الإتفاق نفاق وكثرة الخلاف شقاق". وكل ذلك يجعل الوضع اللبناني معلقا على ما يريده "الخارج". وهكذا الذي يحدد "ظروف الرئاسة" هو هذا "الخارج"، وتحديدًا الخارج الغربي الأميركي والروسي والأوروبي والإقليمي الايراني والسعودي، أي "الخارج" الذي يشكو البعض من تدخل سفرائه في الشأن اللبناني ويعتبر أن انتخابات الرئاسة تقفل هذا التدخل الذي يصنع الرئيس...
أين يراعي "الخارج" "الداخل" في انتخاب الرئيس اللبناني؟
بالتأكيد "تخريج الرئيس" يتم من "الخارج" عبر الداخل اللبناني الممثل بـ"البرلمان". هذه حقيقة لا يمكن القفز عنها. كما أن المسألة الإنتخابية تفترض باللاعب الأساسي الأميركي مراعاة المعادلة التي تقول بأنه لا يأتي برئيس نكرة وغير معروف. بمعنى آخر، على واشنطن أن تراعي العامل الإنتخابي ومدى قبول رؤساء الكتل النيابية بالرئيس المطلوب وإن كانت بدعة الديمقراطية التوافقية تجعل حسابات الرئاسة الأولى ترسو على قاعدة توافقية طوائفية تشلّ الرئاسات وتمنح "الخارج" القدرة على استتباع الطوائف لا الزعامات فقط.
شهور خمسة وبحسابات "الخارج" تضع الملف الرئاسي في الثلاجة. وخلال هذه الشهور خلط الأوراق مستمر حتى يصبح الوضع اللبناني الداخلي أكثر طواعية للخارج الأميركي، لأن عملية التطويع هذه تنتزع حجم الضغوط التي يمكن أن يمارسها "الخارج الاقليمي" الايراني – السعودي مجتمعا. والأرجح أنه في اختيار الرئيس أميركيا أن تراعى الإعتبارات الأمنية والمالية ووشائج علاقات المرشح الرئاسي بالمكونات الأساسية. وبهذا ليس مفاجئا أن يقفز إلى واجهة الأسماء وسيط رئاسي يتحرك في الكواليس وبين العواصم.
* رئيس المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع