لم ينجح مجلس الوزراء اللبناني في جلسته الأخيرة التي استغرقت أكثر من خمس ساعات، سوى في التمديد ساعات إضافية لإخراج بيان "فعل الندامة" للمملكة العربية السعودية ودول الخليج، ولم يأتِ البيان بما يرضي اللبنانيين، ولا السعوديين، فكان لا بدّ من مؤتمر صحفي في "بيت الوسط"، أطلق خلاله الرئيس سعد الحريري "وثيقة تاريخية" تُثبت انتماء لبنان العربي، والحرص على أفضل العلاقات مع "أهل المكرمات"، بحضور أباطرة المال من شركاء المرحوم والده، الذين لا يرى الشعب اللبناني في بعضهم سوى وجوه غيلان من بعدهم الطوفان.

لسنا بصدد البحث في موقف الرئيس تمام سلام، وهو "المقاصدي" العتيق التي تنعم بخيرات المملكة السعودية منذ أيام المرحوم والده، ولا بولاء الرئيس سعد الحريري لـ"طويل العمر"، بل نحن بصدد تعريف العروبة التي أصرّ عليها الرجلان، وتأريخ تاريخها الحالي، كي لا تبقى كلمة ممجوجة تافهة وساقطة من قاموس كرامات الأمم، وكي لا يحتسب الشعب اللبناني المقاوم، على عروبة معاصرة ثقافتها التكفير وهدر الدماء وهو منها بريء، ولنحاول أن نبحث عن موقع لبنان ضمن العروبة التي تنهش ذاتها بوحشية "داعشية" لم يعرفها العصر الحجري، وما زالت تنضوي تحت مسمى "الجامعة العربية" لاثنتين وعشرين دولة يمكن توزيعها على سبعة محاور:

1- الدول التي لم تتلوّث حتى الآن بالفكر العروبي المعاصر، ولا بدماء "الربيع العربي" وهي: موريتانيا وجزر القمر وجيبوتي.

2- الدول التي تعيش وستعيش إلى أجل غير مسمى مخاض النزاعات القبلية على الطريقة الجاهلية، وهي: السودان والصومال وليبيا.

3- الدول التي تعيش رمادية الانتماء، وتبحث لنفسها عن دور تابع، وهي: الأردن والكويت والإمارات.

4- الدول المنضبطة ضمن حدودها وتنأى بنفسها عن الانتحار الأحمق، وهي: الجزائر والمغرب وسلطنة عمان.

5- الدول التي تدفع أثمان الشرق الأوسط الجديد دماً ودموعاً، وهي: مصر وتونس وسورية والعراق واليمن، ومعها فلسطين.

6- الدول التي تتصدر صياغة العروبة المعاصرة ورسم "الإسرائيليات"، بصرف النظر عن التابع والمتبوع فيها، وهي: السعودية وقطر والبحرين.

7- يبقى لبنان، الدولة ذات الكرامة والعزة والسيادة، والذي قاد ويقود أشرس حملة دفاع عن النفس، وخطيئته الوحيدة أنه عربي الانتماء قولاً وفعلاً، وبالنيابة عن العرب، كل العرب، وغصباً عن الغرب، كل الغرب، داس على الصهيوني الغاصب، وسحق أسطورة "جيش الدفاع"، وبات "البعبع" الإقليمي الأوحد للعدو، باعتراف قادة العدو، لكن لأنه كذلك.. أُهدر دمه!

هذه هي العروبة المعاصرة، كي لا نضيع في القواميس، وما على الرئيس تمام سلام سوى تعريف معنى التضامن العربي قبل دعوة لبنان إلى التضامن، وعلى الرئيس الحريري شرح فهمه للعروبة قبل أن يشرحها للبنانيين، سيما أن لغته العربية لا تساعده كثيراً في الشرح، وتاريخ لبنان هو أشرف وأنصع صفحة في تاريخ الانتماء العروبي، والعيب كل العيب أن يُدعو اللبنانيين إلى عملية فحص الدم القومي عبر "الوثيقة الحريرية"، وهو الوطن الذي يرسم حدوده بدماء أبنائه.

وإذا كان الرئيس سلام منذ تشكيل حكومته بعد مخاض، يمارس دور تصريف الأعمال لحكومة عاقر، ضمن الدور المسموح له به، فإن على الرئيس الحريري قبل أن يصدح من "بيت الوسط" بعبارة "أيها اللبنانيون" ويدعوهم إلى إعلان الولاء للمملكة، أن يقرأ الشارع اللبناني خلال غيبته، ليدرك حجم خيبته والبداية من طرابلس.

الوزير أشرف ريفي استقال من الحكومة وأقال الحريري من طرابلس، ويستعد لإعلان "الحلف الثلاثي" مع ثنائي عكار المرعبي والضاهر، في محاولة أخيرة لإحياء "الإمارة الإسلامية"، انتخابياً على الأقل، في مواجهة الحريري، الذي استقبلته طرابلس في باحة مسجد "الصدّيق" بجماهير لا تتعدى حمولة باص، بينما حُمل ريفي على الأكتاف وكأنه "الخليفة المنتظر للجماهير".

ومن طرابلس إلى مسقط الرأس صيدا، التي كتب أبناؤها على صور الرئيس الشهيد رفيق الحريري ما يجب أن يتوقّعه نجله سعد، وليس إقفال مؤسسات الحريري هو الذي غيّر المزاج الشعبي للناس، سواء في صيدا أو البقاع أو بيروت بعد عكار وطرابلس، بل جاء إقفال هذه المؤسسات لأسباب مادية أولاً، وثانياً لأن مردودها في صناديق الاقتراع لن يحمل السعد للشيخ سعد، والأرض أفرزت الأحجام، وانتهى فرز الصناديق قبل أن تفتح، وإذا كان الرئيس الحريري يرغب بإحصاء الشعبية لطروحاته "العروبية" وولائه الخليجي، فها هي الوثيقة التي أطلقها ووقّعها مع ضيوفه خلال المشهدية الاستعراضية من بيت الوسط، فليحملها إلى الحلفاء وفروع "تيار المستقبل" في جميع المناطق، ولينتظر رأي الناس إذا كانوا معه أو مع "دولة حزب الله"، كما يحلو له أن يسمّيها.

لبنان يرحّب بعودة الرئيس الحريري، لكن على الرئيس الحريري أن يعود إلى ذاته اللبنانية، وأن يخلع عنه كل العباءات الإقليمية، لأن اللعبة غدت أكبر من الجميع، ولبنان بات على حافة هاوية الـ"سين - سين"، ينتظر تعقّلاً سعودياً في التعاطي معه كدولة ذات سيادة متميزة وليس دولة متسوّلة، أو أن على لبنان أن ينتظر "جنوناً" سورياً ونصراً ساحقاً للنظام، ولو أن إعلان النصر السوري سيطول ومعه يطول انتظار اللبنانيين..