قد يكون الاتفاق الروسي – الأميركي أو لنقل التفاهم الدولي حول تنفيذ أحد بنود القرار 2254 المتصل بوقف الأعمال القتالية في سورية، موقفاً فريداً من نوعه في العلاقات الدولية وفي أصول الصراعات العسكرية، والآن وبعد الوصول إلى هذا التفاهم وتحديد موعد لبدء العمل به قد يكون من المجدي مناقشة أمرين أساسيين يتعلقان به: الأول يتصل بظروف نجاح الاتفاق والثاني يتصل بدلالات هذا الاتفاق وما سيترتب عليه من نتائج.
أ ـ فمن حيث الدلالات يمكن أن نسجل الأمور التالية:
1 ـ أبرم التفاهم بين كل من روسيا وأميركا ولم تتمّ العودة إلى مجلس الأمن، كما هو مألوف ومعتاد، في مثل هذه الحالات، كما أنه اعتمد حتى ومن دون العودة إلى الأمين العام للأمم والمتحدة أو على الأقل تكليفه، من حيث الشكل بالإعلان عن الاتفاق طالما أنه المعني الأول والأخير بتنفيذ قرارات مجلس الأمن وملاحقتها. وهنا يطرح سؤال مهم هل العالم دخل في المرحلة الانتقالية التي تسبق تثبيت أركان نظام عالمي جديد مغاير لما شاءته أميركا، وبات القرار الدولي الآن خارج الأمم المتحدة التي جعلتها أميركا خلال حقبة الأحادية القطبية دائرة تنفيذية من دوائر وزارة الخارجية الأميركية؟ قد نجنح للقول نعم نحن أمام عهد جديد في العلاقات الدولية فقدت فيه اميركا أحاديتها القيادية.
2 ـ أدّى الاتفاق إلى فرز بين المجموعات المسلحة في سورية بين جماعات إرهابية لا يشملها الاتفاق وهي موجودة تقريباً على مساحة تصل إلى 85 من الأرض التي دخلها المسلحون، وجماعات مسلحة مشمولة بالاتفاق وهنا يخشى من عملية تسرّب والتفاف على الاتفاق وتحوّل مَن هو في «داعش» و«النصرة» غير المشمولتين به إلى الانضمام للجماعات الثانية. ثم وضع أطراف الاتفاق أمام أمر واقع يقبلون فيه وقف العمليات القتالية مع جماعات هي إرهابية الأصل والجوهر ارتدت قناعاً يخفي حقيقتها، أما أن لم يحصل هذا التسرب فسيكون وقف الأعمال العدائية جزئياً لا يتعدّى الـ 15 من الميدان الحالي.
3 ـ قطع الاتفاق بشكل عملي أو ضمني الطريق على أي تدخل أجنبي من قبيل ما كانت تهدد به السعودية وتركيا من إرسال جيوش مقاتلة إلى سورية، بذريعة حرب «داعش» وحقيقة مواجهة الحكومة السورية بقيادة الرئيس الأسد رغم أننا كنا ننظر إلى هذا التهديد باستخفاف ونراه حرباً إعلامية لا ترقى إلى مستوى الحرب النفسية المؤثرة كما انه حمّل الأطراف الدولية المتدخلة في سورية مسؤولية وقف دعمها للمسلحين، تحت طائلة مواجهتها بتبعة دعم الإرهاب وانتهاك الاتفاق، ولذلك وجدنا كيف أن السعودية تتردّد بقبول الاتفاق وتركيا تتحفظ حول بعض ما جاء فيه.
4 ـ أظهر الاتفاق، ورغم ما يحيط به أو ما يشوبه من ملاحظات، أنّ هناك جدية دولية على الأقلّ من قبل روسيا وأميركا للسير قدماً بتنفيذ القرار 2254 المتعلق بإطلاق المسار السياسي في سورية.
5 ـ إن وضع الاتفاق موضع التطبيق الفعلي سيفضح مستوى قدرة هذا الطرف أو ذاك من الذين يدعمون أو يزعمون أنهم يقودون ما يُسمى معارضة مسلحة، أما بالنسبة للجيش السوري فإنه وباعتباره الجيش الشرعي في البلاد، فإن الاتفاق سيتيح له العمل في اتجاهين: اتجاه مَن وصف بأنه إرهابي وسيكون معه قتال مستمرّ لاستعادة السيطرة على الأرض التي يوجد عليها، وفي اتجاه مَن شمله الاتفاق وقبله فيكون تجنّب للمواجهة القتالية معه، طالما أنه ملتزم بالاتفاق وهنا حقن للدماء وإلا فسيكون القتال إن خرقه، ولن يكون الاتفاق مانعاً للجيش من التصرف العسكري معه فضلاً عن وجوب تدخل راعي الاتفاق روسيا وأميركا إلى جانب الجيش لقمع مَن أخَلّ.
6 ـ وأخيراً نرى أنّ أهمّ ما في الاتفاق من دلالات هو أنه طوى كلّ المشاريع التي أُعدّت لسورية من قبل قيادة العدوان، بما في ذلك مشاريع التقسيم، فقد اعتمد الاتفاق حول وقف العمليات في لحظة مثالية للدولة السورية تمتلك فيها كافة المفاتيح الاستراتيجية والقانونية للدولة العميقة الموحّدة، كما أن جيشها المدعوم من حلفاء قادرين، هو صاحب اليد العليا وبأرجحية واضحة في الميدان.
ب ـ أما عن ظروف نجاح الاتفاق أو عوائق التطبيق فإننا نسجل ما يلي:
1 ـ في الوقت الذي لن يكون أي صعوبة لدى سورية وحلفائها للالتزام بالاتفاق، حيث هناك قيادة عسكرية متماسكة تأمر وتطاع مع التقيّد التامّ بأوامرها، فإننا لا نجد لدى المسلحين منظومة قيادة وسيطرة لضبط الميدان والإمساك بعناصرهم لذلك سيفرز الميدان الكثير ممن يطلق عليهم المجموعات غير المسؤولة أو غير المنضبطة والتي ستُلقى عليها تبعة الانتهاكات والخروقات التي قد تتسبّب في حال توسعها وعدم معالجتها بانهيار الاتفاق، فإذا أضفنا إلى هذا الأمر مسألة عدم شمول الوقف لجبهات «النصرة» و«داعش»، نسأل كم هي المساحة التي سيكون الاتفاق مطبّقاً عليها؟ إنها قطعاً لا تشكل إلا جزءاً بسيطاً لا يتعدّى الـ7 إلى 10 من أصل الجبهات.
2 ـ في الوقت الذي لن يكون أمام الجيش العربي السوري مشكلة في تزويد الحليف الروسي، بكل ما يطلب تسهيلاً لمهمة المراقبة والتحقق من التقيّد بالاتفاق، فإننا لا نتصوّر انّ المجموعات المسلحة ستبلّغ بدقة عن مراكزها وأحجام القوى القائمة فيها، لاعتبارات عسكرية ميدانية ونفسية معنوية، وهذا ما سيعرقل مهمة المراقبة وينشئ مسارب التسرّب والتفلت من التطبيق.
3 ـ في ظل امتناع تركيا عن الالتزام العلني والصارم بالاتفاق، فإننا لا نستبعد استمرارها في تزويد المجموعات المسلحة من الفئتين مشمولة وغير مشمولة بالاتفاق ، بالدعم العسكري الذي سيعتبر من قبل الفريق الآخر خرقاً للاتفاق يتيح له التدخل لوقفه، وهنا سيكون إشكال آخر حول التفسير والسلوك.
4 ـ وأخيراً يمكن التأكيد بأنّ الجيش العربي السوري وحلفاءه واحتراماً منهم للاتفاق لن يقوموا بعمل من شأنه إثارة الشكوك حول تقيّدهم به، لكن وفي ظلّ عدم انضباط وعدم تماسك الجماعات المسلحة، وفي معرض التنافس واستغلال الفرص، فإننا لا نستبعد «تذاكياً» أو «تشاطراً» من هذا الفصيل أو ذاك لتغيير الواقع الميداني في هذا الموقع أو ذاك بما يستفز الجهة الأخرى ويحملها على المعالجة الميدانية لوقف الخرق.
لكلّ هذه الأسباب فإننا نجنح إلى القول بأنّ احتمالات عرقلة الاتفاق تتقدّم، من حيث النسب المئوية على احتمالات نجاحه، ومع هذا نرى أنّ الجهات التي كانت وراء هذا الاتفاق لا تستطيع تقبّل فكرة فشلها، فالاتفاق كما قلنا في اللحظات الأولى لإعلانه فرصة لأميركا لحفظ ماء وجهها في المسألة السورية، بعد محطات الفشل المتتالي الذي تخبّطت فيها خلال السنوات الخمس الماضية، كما أنّ الاتفاق يشكل فرصة لروسيا لتثبيت ما حققه دعمها للجيش العربي السوري في الأشهر الخمسة الأخيرة من غير الحاجة إلى قدرات عسكرية كبيرة لحفظ الإنجاز، ثم أنه يشكل فرصة لمعسكر الدفاع عن سورية للتركيز أكثر على حرب «داعش» و«النصرة» والمحافظة على زخم الهجوم على حلب والتوجه نحو الرقة العاصمة المزعومة لـ«داعش»، وفي ذلك عمل إضافي يسمح لسورية بترسيخ وحدتها.
وفي الخلاصة يعتبر الاتفاق مكسباً لسورية ولمعسكر الدفاع عنها، من حيث حقن الدماء في مواجهة من يرتضي بالعمل السياسي والإقرار بالمسار السياسي الذي يفضي إلى تأكيد وحدة الدولة وعلمانيتها، والتركيز على محاربة الإرهاب الذي يمارسه أعتى تنظيمين في سورية، وقطع الطريق على التدخل الأجنبي أو التهويل به، وفي المقابل يعطي لأميركا فرصة البقاء حاضرة في الملف السوري قبل الإجهاز على دورها فيه، ولذلك تهوّل بتقسيم سورية إن لم ينجح الاتفاق. وأخيراً نرى أنّ هذا التفاهم كرّس نهائياً خسارة القوى الإقليمية موقعها في المسألة السورية، خاصة بالنسبة لتركيا التي تحاول ابتلاع الوضع على مضض والسعودية التي أخرسها الاتفاق، ففجّرت خسارتها بشكل جنوني وهستيري في وجه لبنان وحزب الله الذي تلقي عليه مسؤولية خسائرها الاستراتيجية كلّها في المنطقة كلّها من البحرين إلى اليمن فالعراق وسورية وصولاً إلى لبنان.