على الرغم من الإيجابية، التي يقابل بها البعض الإتفاق الروسي الأميركي على وقف إطلاق النار في سوريا، يقترب المشهد في المنطقة من الوضوح أكثر من أي يوم مضى، عبر أحداث ومواقف، تحمل في طياتها العديد من المعاني المهمة، والتي ينبغي التوقف عندها ملياً قبل فوات الأوان، لا سيما أنها قد تكون بوابة حروب جديدة لا حلول سلمية طويلة، نظراً إلى أنها تعقّد الأوضاع لا تساهم في معالجتها.
قبل أيام قليلة، كان الحديث عن عملية عسكرية برية، قد تقوم بها تركيا أو السعودية، هو الطاغي، لكن بعد الإتفاق بين موسكو وواشنطن باتت المخاوف في مكان آخر، يبدأ من إقتراب إعلان التحالف الإرهابي، بين جبهة "النصرة" وتنظيم "داعش"، ولا ينتهي عند تهديد وزير الخارجية الأميركي جون كيري بخيار التقسيم، إذا ما طالت الحرب، وهو الأمر المتوقع بقوة، بل يشمل أيضاً الحديث الإسرائيلي عن حرية العمل المحفوظة في الميدان السوري.
في هذا السياق، لا تعلق أوساط مراقبة، عبر "النشرة"، الكثير من الآمال على إحتمال نجاح إتفاق وقف إطلاق النار، وتشير إلى مجموعة من العراقيل التي قد تؤدي بأي لحظة إلى إسقاطها من قبل الأفرقاء المتضررين، وترى أن هناك من لا يزال يراهن على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، من خلال السعي إلى تبديل المشهد في الميدان العسكري، عبر إعادة تجميع ودعم المجموعات المسلحة، لتعويض الخسائر التي تعرضت لها في الفترة الأخيرة.
بالنسبة إلى الأوساط نفسها، هذا الإتفاق، على الرغم من التوافق الروسي الأميركي عليه، لا يملك مقومات النجاح القوية، بل على العكس من ذلك تعتريه بعض الشوائب التي ستحول دون نجاحه، وأبرزها عدم وجود أفق سياسي قادر على أن يكون عاملاً مساعداً له في المرحلة المقبلة، بالإضافة إلى عدم وضوح الجهات التي سيشملها.
على هذا الصعيد، تشير هذه الأوساط إلى التقارب في الرؤية بين كل من جبهة "النصرة" وتنظيم "داعش"، في ظل الإتفاق على تصنيفهما منظمتين إرهابيتين، في حين هناك من لا يزال يسعى إلى إستثناء "النصرة"، عبر التأكيد بأنها فصيل سوري فاعل ينبغي التعامل معه على هذا الأساس، والتهديد بإفشال الهدنة المنتظرة في حال عدم حصول ذلك، مع العلم أن الجبهة هي من رفضت في الفترة السابقة الإبتعاد عن "القاعدة"، من خلال "مخرج" الدعوة إلى الإعلان عن "فك الإرتباط"، لا بل أصرت على "البيعة" التي في عنقها إلى زعيم "التنظيم الأم" أيمن الظواهري، وترى أن المنظمات الإرهابية قد تكون في الأيام المقبلة أمام ما يمكن تسميته بـ"تحالف الضرورة"، ولا تستبعد أن تنضم فصائل أخرى إلى "النصرة" و"داعش"، لا سيما أن بعضها يعيش هاجس الإقتتال الداخلي معهما، في حال موافقته على وقف إطلاق النار.
وسط هذه المعطيات على الصعيد الداخلي، لوح وزير الخارجية الأميركية جون كيري بخيار التقسيم، من خلال التأكيد أنه من الصعب بقاء سوريا موحدة، إذا استغرق إنهاء القتال فترة أطول، الأمر الذي تشير الأوساط المراقبة إلى أنه خطة واشنطن الأساسية، لادراكها جيداً أن الحرب لن تنتهي في وقت قريب، بل هي ستستمر سنوات، حتى ولو توافقت أغلب القوى الإقليمية والدولية على وضع حد لها، نظراً إلى الشرخ الذي أحدثته في المجتمع، بالإضافة إلى عدم إمكانية القضاء على الجماعات الإرهابية خلال فترة قصيرة، بعد أن نجحت في بناء بنية قوية لعملها، مستفيدة من الفوضى المسيطرة على واقع المنطقة، ناهيك عن إحتدام الصراع المذهبي الذي يقدم لها كل مقومات البقاء.
بالتزامن، تحدث وزير الدفاع الإسرائيلي موشي يعلون، قبل أيام قليلة، عن حرية العمل المحفوظة لبلاده في سوريا، مشيراً إلى أن هذا الأمر معروف لدى واشنطن وموسكو، كما خرجت تقارير تتحدث عن إنشاء "داعش" خلايا نائمة هدفها ضرب تل أبيب، مع العلم أن التنظيم الإرهابي لم يقم بمثل هذه الخطوة منذ ولادته، وهو ما تعتبره الأوساط نفسها سعياً إسرائيلياً لحجز موقع في المعادلة، بعد أن أدركت التحولات القائمة في جبهة الجولان، وتسأل: "هل هذا يندرج في سياق خطة التقسيم، بحيث يتأمن الحزام الأمني لتل أبيب، على أنقاض الركام السوري؟"، وتضيف: "يبدو أن هذا هو التوجه تحت عنوان مكافحة الإرهاب، في ظل المساعي القائمة لوضع الفصائل المقاومة في الخانة نفسها مع "داعش" و"النصرة".
في المحصلة، لا تزال الصورة السوداوية هي المسيطرة على الواقع في سوريا والمنطقة، من دون أن تنجح كل المشاورات والإتصالات في كسر حدة المواقف، رغم الإعلان عن إتفاقات لا تلبث أن تعود لتسقط بعد فترة قصيرة.