نسي الكثيرون أو تناسوا أنّ جزءًا من أسباب الحرب اللبنانيّة تمثّل بخلافات عميقة بين اللبنانيّين على جذور لبنان، وعلى هويّته وإنتمائه، وكذلك على سياساته الخارجيّة. والمُضحك المُبكي أنّه بعدما إرتضى المسيحيّون التغاضي عن الجذور الفينيقيّة للشعب اللبناني(1)، ووافقوا على أنّ لبنان "عربي الهويّة والإنتماء"، إختلف المُسلمون في العقد الأخير على عروبة لبنان، فاصطفّ جزء كبير من أهل السُنّة إلى جانب العرب والخليجيّين وتبنّوا سياساتهم ودعموا مواقفهم، في حين إصطفّ جزء كبير من أهل الشيعة إلى جانب السياسة الإيرانيّة في المنطقة، وإكتفوا بدعم قلّة قليلة من الدول العربيّة، وفي طليعتها سوريا، في حين صبّوا إنتقاداتهم على الدول العربيّة-الخليجيّة، وفي طليعتها السعوديّة. فما هو السبيل للخروج من هذا المأزق؟
في عرض سريع للتطوّر التاريخي للأحداث، لا بُد من التذكير أنّه في العام 1943 وعشيّة نيل لبنان إستقلاله، توافق الرئيسان بشارة الخوري ورياض الصلح وباقي شخصيّات تلك الحقبة، على ميثاق وطني جرى تبنّي الكثير من بُنوده في التعديل الدستوري الذي تمّ في 8 تشرين الثاني من العام نفسه، ومن أبرز المبادئ التي توافق الجميع عليها في حينه أنّ "لبنان ذو وجه عربي، وهو جزء من العالم العربي"(2). لكن مع إنتهاء الحرب اللبنانيّة وفرض تنفيذ "إتفاق الطائف" بالقوّة، جرى تعديل الدستور، ومن بين ما أضيف إلى مُقدّمته بموجب القانون الدستوري الصادر في 21/9/1990 أنّ "لبنان عربي الهويّة والإنتماء، وهو عضو مؤسّس وعامل في جامعة الدول العربيّة ومُلتزم مواثيقها...". ومع هذا التعديل جرى طمس ما كان يُجاهر به جزء كبير من مسيحيّي لبنان، من أنّ اللبنانيّين هم من أصل فينيقي، وجذورهم تعود إلى ما قبل ظُهور القبائل العربيّة وإنتشار الأديان. وللمُفارقة أنّ ما تنازل عنه مسيحيّو لبنان لارضاء الشركاء المُسلمين ولطيّ صفحة الحرب، صار محلّ إنقسام بين هؤلاء المُسلمين أنفسهم، حيث أنّ منهم من يُجاهر بإنتمائه العربي، ويُشدّد على ضرورة التماهي مع كل قضايا العرب، والتقيّد بقرارات جامعة الدول العربيّة، ومنهم من ينتقد ويُهاجم سياسات الكثير من الدول العربيّة، لا سيّما الدول الخليجيّة منها، ويُجاهر بمرجعيّة "ولاية الفقيه" التي تقوده حكمًا إلى إيران!
إشارة إلى أنّ الخلاف بين اللبنانيّين كان في السابق ولا يزال حتى اليوم، مع إختلاف الأفرقاء المختلفين والظروف والمعطيات، يتمحور حول تموضع لبنان في الصراعات الإقليميّة. وحتى لا نغوص كثيرًا في الماضي، نكتفي بالإشارة إلى أنّ المسيحيّين كانوا يُحاولون في فترة الحرب تمييز لبنان عن الصراعات الإقليميّة أكثر من التمسّك بتعابير طنّانة مثل "الأصل الفينيقي" و"الوجه العربي"، إلخ. واليوم، يُحاول جزء من مُسلمي لبنان جعله مُنسجمًا مع مواقف وسياسات أغلبيّة "أشقائه" العرب، لجهة أن يتضامن معهم في صراعهم الإقليمي الحالي، ضُدّ النظام السوري وضُدّ سياسة إيران التوسّعية في المنطقة. وما التمسّك بعروبة لبنان من قبل هؤلاء إلا محاولة للتذكير بضرورة عدم الخروج عن هذا الإجماع، حتى لو أنّ بعض الدول العربيّة تحاول النأي بنفسها عن الصراع الحاد القائم حاليًا بين السعودية وحلفائها من جهة، وإيران وحلفائها من جهة أخرى. والموقف الخليجي الغاضب حاليًا من لبنان الرسمي، ما هو إلا محاولة ضغط إضافيّة، في محاولة جديدة لمنع إنزلاق لبنان خارج المظلّة العربيّة والخليجيّة، نحو تحالفات إقليميّة مُناهضة للسعودية ولحلفائها. في المُقابل، إنّ إستمرار جزء آخر من مُسلمي لبنان بمُهاجمة الدول الخليجيّة وفي طليعتها السعودية، ما هو في الواقع إلا إنعكاس للإرتماء أكثر فأكثر إلى جانب القيادة الإيرانيّة وسياساتها، والتماهي أكثر فأكثر مع طموحاتها ومصالحها الإقليميّة. وقد نجحت إيران في إستمالة سوريا بشكل كامل إلى حضنها، وهي تمكّنت أيضًا من تأسيس تحالفات وإمتدادات لها في كل من لبنان والعراق واليمن وغيرها من الدول، وتواصل سعيها لمدّ هذا الأمر نحو البحرين والسعودية نفسها. وليس سرًّا أنّ إيران تسعى لإيجاد تحالف بين أقليّة من الدول العربيّة مؤيّدة لها، بمواجهة الأغلبيّة العربيّة المُعارضة لها.
وبالتالي، يُمكن القول إنّ الخلاف لم يكن بالأمس بين "لبنان الفينيقي بوجه عربي" و"لبنان العربي الهويّة والإنتماء"، بل بين رؤية المسيحيّين للبنان ولدوره في المنطقة ولسياساته الخارجية، والتي تختلف عن رؤية المسلمين لهذا الدور ولهذه السياسات، وذلك خلال الفترة الزمنيّة المُمتدّة على الجزء الثاني من القرن الماضي. واليوم الخلاف على "عروبة لبنان" بين المُسلمين أنفسهم، ما هو إلا امتداد للخلاف الإستراتيجي الأكبر والأوسع بين سياسات إيران وحلفائها من جهة، وسياسات السعودية وحلفائها من جهة أخرى، وإمتداد للخلاف العقائدي بين المذهبين السنّي والشيعي، وإمتداد للخلاف على المصالح الإقليميّة بين مُعسكرين لكل منهما تحالفاته السياسيّة والعسكريّة الدوليّة المُختلفة.
والمُفارقة أنّ لا أمل بالخروج من هذا الإنقسام الحاد والكارثي بين مُسلمي لبنان، إلا بالعودة إلى أصول لبنان "الفينيقي"، وإلى ما كان يُطالب به مسيحيّو لبنان منذ عُقود قبل أن ينكفئوا بفعل مرحلة الإضطهاد التي تلت نهاية الحرب، أي لجهة تبنّي سياسة نأي فعليّ بالنفس، ولجهة جعل لبنان أوّلاً وأخيرًا، ولجهة جعل مصالح المواطن اللبناني فوق كل إعتبار وفوق مصالح إيران والدول العربيّة كافة.
(1) سكن الفينيقيّون أرض لبنان الحالية مع جزء من أرض سوريا وفلسطين، واتخذوا من الملاحة والتجارة مهنة لهم، وقد إزدهرت حضارتهم على إمتداد سواحل البحر الأبيض المتوسّط منذ أكثر من 3000 سنة قبل مجيء المسيح حتى قرابة 500 سنة قبل الميلاد أيضًا.
(2) ممّا جاء في الميثاق الوطني سنة 1943 أيضًا أنّ "لبنان دولة مُستقلّة ذات سيادة يرفض الوصاية الأجنبيّة من أيّ جهة كانت"، و"لبنان وطن الحريّة والمساواة في ظلّ الدستور"، و"لبنان بلد لجميع أبنائه على إختلاف إنتماءاتهم الدينيّة"، و"يتخلّى المسيحيّون عن طلب الحماية الأجنبيّة، لقاء تخلّي المُسلمين عن مطالب الوحدة مع الدول العربيّة"، إلخ.