بسرعة قياسية تعود عقارب الساعة إلى الوراء، لتعطي مؤشرات لافتة عما يمكن أن يحصل خلال المرحلة المقبلة، لا سيما أن الإنقسام الحالي قائم منذ ولادة "دولة لبنان الكبير"، وبالتالي لا يمكن القول أن الوقائع الراهنة تُبشر بالخير، بل على العكس تتجمع الغيوم السوداء فوق سماء لبنان لتمطر بأي لحظة.
من المعروف تاريخياً، أن بيروت تدفع دائماً ثمن الصراعات الإقليمية والدولية، لكن في الفترة السابقة كانت الأغلبية العظمى تتوقع أن لا يتكرر الأمر نفسه هذه المرة، إنطلاقاً من المظلة الضامنة التي يجري الحديث عنها منذ بداية الأزمة السورية، فهل تبدلت الأوضاع نتيجة الأزمة مع العلاقة مع السعودية؟
في هذا السياق، تعود أوساط مراقبة، عبر "النشرة"، إلى مرحلة خمسينيات القرن المنصرم، أي إلى الفترة الممتدة ما بين عامي 1956 و1958، عندما كان الإنقسام بين الدول العربية حول مفهوم "العروبة" هو الطاغي، خصوصاً مع ولادة "حلف بغداد" الذي ضمّ بشكل أساسي العراق وإيران وتركيا والسعودية، مدعوماً من الولايات المتحدة وبريطانيا، في مواجهة تجمع آخر يضم مصر، بزعامة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وسوريا، مدعوماً من قبل الإتحاد السوفياتي السابق، في حين كانت القوى اللبنانية منقسمة على نفسها، بين فريق إختار التماهي مع هذا المحور، وآخر إختار الإنتماء إلى الثاني، لتنفجر الأوضاع بشكل دراماتكي، في صيف العام 1958، بعد إنحياز الرئيس الراحل كميل شمعون إلى "حلف بغداد".
تشير هذه الأوساط إلى أن الأمر نفسه يتكرر اليوم، على الساحتين الدولية والإقليمية، حيث الإنقسام بين محورين واضحين، في ظل مساعي واشنطن إلى محاصرة موسكو، أما على المستوى الإقليمي فقد بدأ يتكون "حلف الرياض"، الذي تقوده السعودية وتركيا من خلال "التحالف الإسلامي"، ويضم إلى جانبهما بعض الدول العربية والإسلامية، في مقابل آخر معروف منذ سنوات بـ"قوى المقاومة والممانعة"، ويضم طهران ودمشق، بالإضافة إلى بعض حركات المقاومة في فلسطين ولبنان، أبرزها "حزب الله"، في وقت أدّت أحداث "الربيع العربي" إلى إنضمام قوى جديدة لها من دول مختلفة، لا سيما العراق واليمن.
كان هدف "حلف بغداد"، بحسب ما توضح الأوساط المراقبة، محاصرة "المدّ الناصري"، الذي كان يسعى إلى "الوحدة العربية"، لكن في المرحلة الحالية يريد "حلف الرياض" محاصرة ما يسميه بـ"المدّ الفارسي"، في ظل هواجس الحفاظ على السلطة من قبل بعض الأنظمة العربية والإسلامية، وتضيف: "في الفترة السابقة كانت الأفكار الشيوعية هي العدو الأبرز، أما اليوم فإن الحرب تخاض تحت عنوان حماية أهل السنة في المشرق، بالإضافة إلى الإستفادة من مفهوم العروبة، الذي كان سلاح عبد الناصر الأبرز"، وتشير إلى أن المواجهة بين الجانبين كانت بالحماوة نفسها القائمة اليوم.
على الرغم من إختلاف توزع القوى الحالي، عن الذي كان قائماً ما بين عامي 1956 و1958، تعتبر الأوساط نفسها أن الصورة العامة مشابهة، حيث المطلوب من لبنان حسم وجهته، بالنسبة إلى الإنتماء إلى هذا المحور أو ذاك، في حين يمنع الإنقسام القائم أخذ موقف حاسم وواضح، وبالتالي لا يمكن معرفة المسار الذي ستسلكه الأحداث، إلا أن الأكيد هو أن الإنفجار متوقع في أي لحظة، من دون معرفة النتيجة التي سيكون عليها في نهاية المطاف، مع الجزم بأن التركيبة اللبنانية ستقود إلى تلك التي خرجت في السابق، لناحية إبتكار نظرية "لا غالب ولا مغلوب"، وهو ما كان قد أكد عليه رئيس المجلس النيابي نبيه بري مؤخراً.
في السابق، قاد الصراع بين "حلف بغداد" وعبد الناصر، إلى إنتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، وكان الإجتماع مع الرئيس المصري في خيمة على الحدود في منطقة المصنع هو الصورة الأبرز لهذه التسوية، بعد الإتفاق على مفهوم "حياد لبنان الإيجابي" بين المحاور، الذي يقارب إلى حد بعيد نظرية "النأي بالنفس"، لكن الحرب لم تتأخر كي تطل برأسها من جديد في العام 1975.
بالنسبة إلى الأوساط نفسها، المشهد نفسه قد يتكرر اليوم، إلا إذا نجحت الخطوط الدولية الحمراء في حماية الإستقرار المحلي، إلا أنها تعتبر أن الواقع الراهن غير مساعد، خصوصاً مع إرتفاع مستوى الإحتقان المذهبي والسياسي إلى حدوده القصوى.
في المحصلة، من المفيد العودة إلى الماضي لبعض الوقت، لفهم المسار الذي قد تسلكه الأحداث في المرحلة المقبلة، خصوصاً أن الأزمات الأساسية التي تمر بها دول المنطقة لم تحسم منذ ولادتها مع إتفاقية سايكس بيكو.