بلدة "معركة" اسم على مسمّـى. فلها شرف المزاوجة بين الإنتفاضة المدنية والمسلحة في آن معا. ولها مع محيطها في "القرى السبع" شرف احتضان القادة الشهداء محمد سعد وخليل جرادي وداوود داوود. ولها الشرف والعزة في أنها كسرت الخوف من جيش الإحتلال الذي روّج لفكرة أنه لا يُقهر فقهرته إرادة الصمود فيها وتغليب نزعة الشهادة والأخذ بمدرسة الإمام الحسين برفض الظلم والإستعباد ولو كانت موازين القوى غير متوفرة.
ماذا تعني انتفاضة "معركة"؟
هذه الإنتفاضة تحمل معاني كثيرة في دلالاتها. بلدة صغيرة في الجغرافيا وفي عدد السكان تتحدى الإجتياح الاسرائيلي ومخططاته.
أولا أسقطت انتفاضة "معركة" ما كان يرمي إليه الإحتلال الإسرائيلي من خلق هوة وتناقض بين السكان والمقاومة. كما كان من عناوين هذه الإنتفاضة تثبيت السكان على أرض الجنوب وعدم الخوف من ملاحقة العدو. وهذا يتبيَّـن في شكل أساسي في الرسالة التي وجهها القائد الشهيد محمد سعد قبل استشهاده بساعات عندما دعا المُبعدين والخائفين إلى العودة إلى أرض الجنوب ومقاومة المحتل.
ثانيا أحد أهداف هذه الإنتفاضة كان تحرير الأرض. فالمقاومون كانوا يدركون بأن اسرائيل لها مطامع في الجنوب ومياهه واعتبار أرض الجنوب هي امتداد للجليل الأعلى في فلسطين.
وثالثا تلبية نداء إمام المقاومة السيد موسى الصدر بأن اسرائيل شر مطلق وأن السلاح زينة الرجال في مواجهتها.
رابعا تعميم ظاهرة المقاومة في الجنوب اللبناني عبر تبيان أن البيئة الحاضنة للإنتفاضة في "معركة" هي كرة الثلج المتدحرجة على امتداد أرض الجنوب لجعل بقاء الجيش الاسرائيلي مستحيلا ولرفع كلفة الإحتلال وإجباره على مغادرة الأرض.
خامسا امتلكت إنتفاضة "معركة" رؤية سياسية سندها فكر الإمام وتعميم القيادة السياسية ممثلة بقرار مركزي من رئيس المجلس النيابي نبيه بري بأن العدوان على "معركة" أو مدينة صور سيُحتم قصف المستوطنات الإسرائيلية وجعلها من دون مأمن من نقمة المقاومين وغضبهم وأن المخرج الوحيد المحتوم للجيش الإسرائيلي هو خروجه إلى ما بعد الحدود الدولية.
سادسا ثمة وعي غير عادي لدى القيادة الميدانية ممثلة بالشهيدين محمد سعد وخليل جرادي بعدم احتكار فكرة المقاومة والإشادة بباقي الفرقاء من المقاومين في الحركة الوطنية واعتبار الجميع في مركب واحد. فالهدف هو أن يبدو الجنوب اللبناني كمتحد اجتماعي واحد في مواجهة الإحتلال.
سابعا كانت "معركة" السباقة في استعمال الحجر في مواجهة البندقية إضافة إلى الزيت المغلي. وعندما وجهت صحيفة "الفيغارو" سؤالا إلى القيادي محمد سعد "أنتم تواجهون الرصاص بالحجارة فما الفائدة"، كان جوابه معبّرًا، إذ قال: "الحجر سترونه بعد فترة سلاحا في فلسطين". وصدقت نبوءته إذ كانت التسمية الأولى للإنتفاضة الفلسطينية هي انتفاضة الحجارة. وكان كلامه هذا للصحيفة الفرنسية قبل ساعات على استشهاده.
كان محمد سعد على يقين بأنه مهما بلغت قبضة الإحتلال الحديدية من قسوة وقمع، فإنّ قبضة المقاومين ستبقى أشد شراسة وضراوة وسوف تلاحقهم في كل مكان طالما ظل جندي صهيوني يدنِّـس قرى الجنوب.
أما القائد خليل جرادي فقد كان مقتنعًا بأن الدبلوماسية لا تنفع مع اسرائيل، وأنّ مقاومة الإحتلال هي واجب، ولذلك نتكلم عن مقاومة منظمة وأن هناك تكاملا في القرى السبع بين المقاومة المدنية الجماهيرية والمقاومة العسكرية.
في كلّ الأحوال، تجربة الشهيدين محمد سعد وخليل جرادي تؤكد أن الإيمان بالشعب يمكنه أن يأتي بالإنتصار الذي حققته "معركة" والقرى السبع بحيث لا نذهب إلى معارك جانبية تضيِّع الهدف الأساسي. فاسرائيل خطر متجدد ينتظر الثغرات في بنية مجتمعاتنا باتجاه تفكيك وحدتها. ولذلك لا بدّ من تحصين المعادلة التي تقول "جيش وشعب ومقاومة". وهذا يفترض سحب سياسات التحدي في العلاقات بين المكونات اللبنانية وتغليب سياسة الحوار وحتى فكرة "لا غالب ولا مغلوب" إن اقتضى الأمر. فتجربة "معركة" ومعها القرى السبع تصلح للتعميم لبنانيًا. ولعله لهذا السبب أدرك القائدان الشهيدان سعد وجرادي بأن لكل فرد دور من الشيوخ إلى النساء إلى الأطفال إلى المقاومين عندما تتحد المكونات وعندما يُرسم الهدف بوضوح.
* رئيس المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع