قادتْني قَدَماي بالأَمس إلى جسر المشاة فوق أُوتوستراد أنطلياس، فوقَفْتُ ناظرًا إلى أَرْتال السَّيَّارات تذهب متدافعةً متلاحقةً وأَرتال أُخرى تأْتي متزاحمة متراصفة، وكأَنَّ النَّاس، كلَّ النَّاس، نزلوا من بيوتهم إلى الطُّرقات يقصدون مكانًا ما، أَو قلْ كأَنَّهم يسيرون بلا هدفٍ نَحْوَ مجهولٍ يرَوْنَ فيه ما لَمْ يَرَوْه حيث هم. فأَخذني هذا المشهد إلى تساؤُلاتٍ كثيرة حَوْل نَمَط الحياة الذي غَلَبَ على مجتمعات الاستهلاك، وكدْتُ أَرى عَبْرَ مَرايا الذَّاكرة صُوَرَ البَدو الرُّحَّل الذين يسعَوْن وراءَ مطرة نزلت هناك، أَو غَيْمَة تُشير إلى قُرْبِ وُقوعِها، علَّهم بذلك يَرْوونَ عَطَشًا إلى الحياة نَما فيهم وقادهم إلى حَيْثُ يمكن أَنْ يتحقَّق تَوْقُهم إلى الأَفضل الذي يخرجُ بهم من واقعٍ رفضوه أَو قبلوهُ قَسْرًا، إلى وَعْدٍ خيِّرٍ لمْ يكنْ واقِعُهم قادرًا على تحقيقه.
أَمام هذه التَّساؤُلات تراءَى لي موسى يخرجُ بشَعْبِهِ من أَرْضِ العُبوديَّة إلى أَرْض اللّبن والعسل والكرامة والحرِّيَّة. وهنا جلسْتُ متأَمِّلًا صامتًا واجمًا قائِلًا بهَمْسِ الخجولِ، بصَوْتٍ مِن ذاتي إلى ذاتي: نحن اليَوْم في زَمَنٍ يدْعونا الإيمانُ فيه إلى الصِّيام استعْدَادًا للعُبور نَحْوَ لبنٍ من نَوْعٍ مختلف وعسلٍ أَيْنَ منه حلاوات الأَرض كلِّها. فلَوْ شِئْنا في هذا الزَّمن المبارك أَنْ نُمارسَ فِعْلَ الخروج، أَتُرانا نعرف من أَيْنَ وإلى أَيْن؟ هل حدَّد كلُّ واحدٍ منَّا مكامنَ القَهْرِ في نفسه ومواطِنَ الانكسار، ليخرُجَ منها إلى مسافاتِ الوَعْد وهَدْأَةِ الانتظار؟
أَنَخْرُجُ من كلِّ ما يُغرقُنا في وُحولِ الرُّكود والاستنقاع، حيث نَرَى في عُفونَةِ الأَيَّام أَفراحًا زائِفة وسعاداتٍ نَخَالُها أَهدافَنا وغايَتَنا، بَيْنَما هي أَشْبَهُ بالآل أَو السَّراب، ما إنْ نَصِلُ إلَيْه حتَّى نُدركَ أَنَّه جفافُ الرَّمْل، وما بهاؤُه إلَّا خداع نَظَرٍ قادَنا عُمْرًا متنقِّلين من فراغٍ إلى فراغ؟
هل يَجْرُؤُ مجتمعُ الحركة بلا بركة في هذا الزَّمن القاحل، أَنْ يَخْرُجَ من بُؤْرة الضَّوْءِ الوَهْميَّة إلى النُّور الحقيقيِّ الَّذي ما بعده عتمة ولا حاجةَ معه إلى شَمْسٍ أَو قمر؟
أَتُرانا قادرين على التخلِّي عمَّا أَمَّنته لنا اجتهاداتُ العَقْل والعلم ومعقَّدات التقنيَّات الَّتي دَخَلَتْ دائرةَ أَسْرارِنا لتَنْشُرَها أَمامَ النَّاس، وكأَنَّ الإنْسانَ ومَكْنُوناتِ ضميرِه سِلْعَةٌ تُعْرَضُ هناك وهنا، حينًا للاستِهْزاءِ وأَحْيانًا للابتزاز، ومَرَّة للتَّجربة ومرَّات لاسْتِرْخاصِ كرامتِه، فيُباعُ في أَسْواقِ النّخاسة آلةً من الآلات أَوْ أَداة متعة من المتع؟ والغريب أَنَّنا نَعْرِفُ كلَّ هذه المُنْزَلَقات ونَسْعَى جاهدينَ إلى الدُّخول فيها غَيْرَ آبِهينَ بِما تُسَبِّبهُ من اخْتِلالٍ في تَوازُنِ العلاقة بَيْنَ القِيَمِ والفَضَائِل وبَيْنَ مساعي العلْمِ والتِّكنولوجيا إلى الابتكارات والاختراعات، مساعٍ تُذكِّرُني برَغْبَةِ آدَم الأَوَّل وشريكته حوَّاء، بأَنْ يُصْبِحا آلِهَةً لِكَي يَسْتَغْنِيا عن الله فكان ما كان.
أَتُرانا مستعدِّين لأَنْ نَجْعَلَ من زَمَن ِالصَّوْم خُروجًا من موائِد السَّعي الحثيث والرَّكْض بِلا هَدَفٍ وكأَنَّنا أَشْجارٌ تُزْهِر ولا تُثْمِر، إلى استقرار النَّفْس وهُدوءِ القَلْبِ والعَقْل كَيْ نَرَى ما يجبُ أَنْ يُرى، فنُجدِّد إيمانًا بمَنْ خَلَقَ كلَّ ما يُرى ومَا لا يُرى؟