على وقع الهدنة الهشة في سوريا، يطلق أغلب اللاعبين الإقليميين والدوليين مواقفهم، النابعة من مصالحهم أولاً وأخيراً، في حين يسعى المندوب الدولي ستيفان دي ميستورا إلى إعادة إطلاق مفاوضات السلام، في الأيام العشرة الأولى من الشهر الجاري، في وقت سارع الرئيس السوري بشار الأسد، يوم أمس، إلى عرض العفو على مقاتلي المعارضة، مقابل تسليم سلاحهم والعودة إلى الحياة المدنية.
الإتفاق الأمني الأبرز على الساحة السورية، جاء نتيجة توافق أميركي روسي، على وقع تهديد الولايات المتحدة بالخطة البديلة، الأمر الذي ترفضه موسكو بشكل مطلق، لكن القوى الإقليمية الفاعلة لا تزال على مواقفها السابقة، لناحية الإستمرار في المواجهة بعيداً عن الحلول السلميّة التي يُحكى عنها، إلا أن ما نقل عن نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، عن خيار الفيدرالية، أثار حوله الكثير من علامات الإستفهام.
في هذا السياق، ينبغي فهم المنطلقات التي تعمل بها الجهات المختلفة، من أجل فهم حقيقة ما يجري، لا سيما لناحية الإصرار الروسي السوري والإيراني على قطع كل الطرق، أمام أي تدخل سعودي تركي عسكري بري، وهو ما عاد المتحدث باسم التحالف العربي أحمد العسيري إلى التلويح به، عبر التأكيد بأن المقاتلات السعودية في قاعدة أنجرليك التركية جاهزة وتنتظر الأوامر، حيث جاء تصريح نائب وزير الخارجية الروسية، الذي نُقل بشكل خاطىء على هذا الأساس، لناحية ترك خيار تقرير المستقبل إلى المفاوضين السوريين وحدهم، وهو ما ينسجم مع ما قدمه الرئيس الأسد لناحية الدعوة إلى ترك السلاح مقابل العفو، خصوصاً أنه بات اليوم يتحدث من موقع القوي، القادر على الإرتكاز إلى الحلول العسكرية، طالما أن مسار الأحداث يسير لصالحه.
بالنسبة إلى الجانبين الروسي والسوري، الإصرار على الإنتقال إلى مرحلة المفاوضات السلمية، رغم التقدم العسكري على أرض الواقع، يندرج ضمن الأهداف نفسها، لا سيما بعد النجاح في إستثناء الجماعات الإرهابية، تحديداً جبهة "النصرة" وتنظيم "داعش"، من إتفاق وقف إطلاق النار، حيث أن هذين الفصيلين يسيطران على القسم الأكبر من الأراضي الخارجة عن سيطرة الدولة السورية، في حين أن قوى المعارضة، التي تُصنف معتدلة من قبل الدول الغربية، عاجزة عن تحقيق أي تقدم نوعي في الوقت الراهن، لا بل فصائلها الرئيسية مطالبة بالإبتعاد عن جناح تنظيم "القاعدة" في "بلاد الشام"، وبالتالي الخطر يكمن في إحتمال حصول أي تدخل خارجي من قبل القوى الإقليمية المتضررة، أي أنقرة والرياض، لكن الحكومتين السعودية والتركية لا تستطيعان القيام بأي خطوة من دون غطاء أميركي، يأتي في سياق التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب.
على هذا الصعيد، تطرح مجموعة من علامات الإستفهام، التي تبدو الإجابة عنها صعبة جداً، نظراً إلى أن الولايات المتحدة عملت، في الفترة الأخيرة، على نسج مروحة متناقضة من التحالفات والتفاهمات، فهي بين خيار الإستغناء عن الحكومة التركية أو وقف دعم القوات الكردية، وبين إغضاب الرياض أو الدخول في مواجهة مفتوحة لا تريدها مع موسكو، لا سيما أن الأخيرة كانت قد سبقتها إلى حجز موقع واضح في الميدان السوري، عبر الدخول المباشر على خط الحرب، وبالتالي قد يكون من الأفضل، بالنسبة لها، الإنطلاق نحو تسوية سياسية في القريب العاجل، تضمن لها جلوس حلفائها على طاولة المفاوضات، من خلال تحركهم الميداني تحت عنوان مكافحة الإرهاب، لكن كيف تقنع أنقرة بالتسليم بالدور الكردي، وماذا عن إصرار الرياض على تنحية الرئيس السوري في أي حل سياسي أو عسكري؟
إنطلاقاً من هذه المعطيات، يمكن القول أن أغلب القوى الفاعلة في الميدان السوري تريد، بشكل مباشر أو غير مباشر، إنهيار الهدنة الحالية، لكنها تفضل أن لا تكون هي المسبب في ذلك، وتراهن على أن يقدم المحور الآخر على خطوة تطيح بها، لكن هذا الواقع يبقى مضبوطاً بالإتفاق الروسي الأميركي على الخطوط العريضة، أي عدم الوصول إلى حرب إقليمية أو عالمية شاملة، إلا أنه دون هذا الأمر يحق لجميع اللاعبين، الإنطلاق في سباق السيطرة على الأراضي الواقعة الخاضعة لسيطرة الجماعات الإرهابية، وهو ما قد تلجأ واشنطن إلى تقديم الدعم والغطاء فيه، لكل من أنقرة والرياض، نظراً إلى أنه يعزز خيار الفيدرالية والتقسيم.
في المحصلة، لا تزال الساحة السورية هي الأكثر تعقيداً على مستوى المنطقة برمتها، حيث كل الإحتمالات تبقى مفتوحة في مواجهة الهدنة الهشة، لا سيما أن الأخيرة قد تسقط في أي لحظة، ليعود من بعدها القرار الحاسم إلى الميدان العسكري.