بعد الإخفاق والفشل الأميركي في مشروع "الشرق الأوسط الجديد" وانكساره في سورية، تعود أميركا لدفاترها وخططها القديمة التي جرّبتها في العراق بعد انسحابها أمام المقاومة العراقية بما عُرف بمشروع "الصحوات السُّنية المسلحة" التي أسستها تحت شعار مقاتلة الجماعات التكفيرية الإرهابية التي انتشرت في الوسط السُّني، بالتحالف مع فلول صدام، ولـ"حماية السُّنة من التهديد الشيعي" من جهة، وتهديدات "داعش" و"القاعدة" وأخواتها في العراق من جهة أخرى، لكن الهدف الحقيقي للأميركيين كان التأسيس للحرب الأهلية المذهبية كبديل عن الغزو الأميركي المباشر، وصولاً إلى تقسيم العراق وإلغائه كدولة مستقلة ومستقرة، ولتأمين القدرة للعبث بأمنه حتى يستنجد العراقيون بالجيش الأميركي والعودة إليه كـ"مخلّصين" غير محتلين، وقد نجحوا بنسبة كبيرة في مشروعهم، وكان السُّنة والشيعة وكل المكونات العراقية ضحايا المشروع الأميركي الخبيث.
قام الأميركيون بتعديل التسمية لـ"صحواتهم" في سورية وأطلقوا عليها اسم "المعارضة المعتدلة" بقيادة "معارضة الرياض" التابعة للأوامر السعودية مباشرة، وتم التأكيد على نقاوتها المذهبية وإقفال أبوابها أمام المعارضة السُّنية التي لا تتبع السعودية، فهي تفتقر إلى المكوّن الكردي أو العلوي أو الشيعي وغيرهم، لأن شعارها الأساسي إسقاط النظام السوري لدواعٍ مذهبية، حيث أثبتت تجربة الهدنة المؤقتة في سورية عدم وجود تنظيم موحَّد للمعارضة، بل اعترفت المعارضة والراعيان الروسي والأميركي وكذلك الأمم المتحدة بأن 97 فصيلاً مسلحاً وافقوا على الهدنة، أي أن 97 جماعة مسلحة من "الصحوات" أو العشائر السياسية هي التي ستواجه أو تفاوض النظام في أي تسوية سياسية، مع الإبقاء على أوراق القوة الاحتياطية والفاعلة المتمثلة بـ"جبهة النصرة" وتنظيم "داعش"، لاستنزاف الدولة السورية، ولحماية هذه الصحوات وتقويتها سياسياً وشعبياً وتكريس وجودها، واعتراف النظام بها مادام أنه اعترف بالهدنة معها.
تقوم الإستراتيجية الأميركية للشرق الأوسط على منظومة إلغاء الجيوش النظامية كقوة تحفظ الكيان والدولة، وصناعة ميليشيات مذهبية وطائفية وقومية تقوم استراتيجيتها على مفاهيم دينية وقومية لحماية الذات والدفاع عن الطائفة أو المذهب بديلاً عن الوطن، واستنزاف الجميع بحروب مستدامة والتهجير المتبادَل والممنهج داخل الوطن الواحد لتكريس التقسيم الديمغرافي كأمر واقع طلباً للأمان والحماية، وهرباً من المجازر والقتل، مما يستولد منظومة جديدة ترتكز على الرؤوس المتعددة الحاكمة والضعيفة التي يمكن السيطرة عليها ومصادرة قرارها، لأنها ستعيش وفاق الحاجة الدائمة للحماية أو تأمين مقومات العيش الاقتصادية، فتصبح المساعدات والإعانات الدولية أو المنفردة بديلاً عن الاقتصاد الوطني وتوجُّه الشباب إلى العمل المسلّح الدائم لتوفير الأمن الذاتي، ما سيعطّل الحياة المستدامة القائمة على التعليم والإنتاج والمعرفة لتعميم الجهل وفقدان وسائل الحياة المريحة، فتُمحى المستشفيات لصالح المشافي الميدانية، والمدرسة المتنقّلة والهجينة والطارئة بديلاً عن المدرسة المنهجية والجامعة المنتجة، وهذا ما يحصل في سورية في مناطق المعارضة، وفي العراق وليبيا وغيرها، مما سيجعلنا أمام أجيال ضائعة ومهمَّشة وجاهلة لا تفتح أمامها سوى معسكرات التدريب وثقافة القتل والاغتصاب والنهب والتدمير للمنشآت التي عمّرتها الدولة السابقة.
الصحوات المذهبية تمثّل استراتيجية أميركا الحديثة مقابل قوات المقاومة والحشد الشعبي والدفاع الوطني واللجان الشعبية، لضمان استمرار القتال الدموي بين المسلمين وإنهاكهم وإضعافهم، والإطاحة بالأقليات عبر تهجيرها أو إبادتها، لتستمرّ الحروب الدينية في العالمين العربي والإسلامي كما حدث في أوروبا التي عانت من الحروب الدينية بين البروتستانت والكاثوليك حوالي 200 عام حتى خسرت ألمانيا ثلث سكانها وأبيح تعدد الزوجات كنسياً لتعويض الخسائر ولنقص الرجال.
إنه عصر الصحوات المذهبية والطائفية وتدمير الجيوش حتى تبقى "إسرائيل" آمنة والمصالح الأميركية محفوظة دون خسارات، ويبقى على قوى المقاومة أن تقاوم على خطين متلازمين: التصدي للمشروع الأميركي عسكرياً وسياسياً، والتصدي للفتنة المذهبية والطائفية عقائدياً وثقافياً وفقهياً، لضمان وحدة الأمة وبقائها وحماية الإسلام من التكفيريين والمضللين.