استيلاء «سوليدير» على الحوض الأول في مرفأ بيروت والقاعدة البحريّة ليس قصة جديدة، فهي تعود إلى تسعينيات القرن الماضي يوم كان رفيق الحريري يروّج لمشروعه تحت مسمى «إعمار بيروت». منذ البداية، كان الهدف ضمّ الحوض الأول إلى الشركة العقارية الخاصة، ونقل قاعدة الجيش البحرية إلى مكانٍ آخر. وُضع المشروع في الأدراج بعدما لاقى معارضة سياسية، في حينه، ولكنّ ذلك لا يعني أنّ الشركة تخلّت عنه. أخيراً، أعيد طرح الملفّ مع استبدال الباب الغربي للمرفأ بمدخل جديد
تمكين شركة «سوليدير» من الاستيلاء على الاملاك العامّة في الحوض الأول لمرفأ بيروت، المعروف ايضا بالحوض الخامس او القاعدة البحرية التابعة للجيش اللبناني، ليس قضية جديدة، بل يعود إلى مطلع تسعينيات القرن الماضي، عندما اقرّ مجلس النواب، برئاسة الرئيس السابق حسين الحسيني، قانون الشركة العقارية، المحال من حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي، بمادة وحيدة، واعطى هذه الشركة حقوقا واسعة تنطوي على مصادرة املاك خاصة وعامة «ببلاش»، من ضمنها العقارات الناتجة من ردم البحر والعقارات الموضوعة في تصرف مرفأ بيروت في الحوض الاول.
قبل ذلك، كان «المقاول» الثري رفيق الحريري، العائد من السعودية، قد ادار عمليّة تسويق واسعة «مدفوعة الثمن» لاقرار القانون، وتولى شخصيا، قبل أن يستلم رئاسة مجلس الوزراء في اواخر عام 1992، الاشراف على وضع التصاميم الجديدة لإعادة إعمار وسط بيروت وتمويل الدراسات، التي جرى تلزيمها باسم الدولة لدار الهندسة. يقول الوزير الراحل هنري ادّه، وهو المهندس الذي اختاره الحريري لوضع الدراسات والتصاميم وكان يُلقب بـ»أبو سوليدير»، في مذكراته التي نشرها تحت عنوان «المال إن حكم… جذور مهددة بالزوال»، ان الحريري تصرّف منذ البداية على انه مالك وسط بيروت التاريخي، وان ما جرى لاحقا كان يدغدغ احلامه منذ الاجتياح الاسرائيلي لبيروت في عام 1982.
هذه الوقائع تعرفها جيداً كلّ القوى والشخصيات التي شاركت في الحكم منذ التسعينيات حتى اليوم، التي كانت منبهرة بمشروع الحريري. إلاّ أنهم، مع اشتداد وقع «الفضيحة» و»صراعات المصالح» وبلوغ سطوة «سوليدير» الى حد مطالبة الجيش باخلاء «قاعدة بحرية» استراتيجية... قرروا اخيرا ان يتعاطوا مع ملف «فساد» بهذا الحجم وكأنه اكتشاف، النائب وليد جنبلاط مثالاً. هل حقا لا يعرفون القصّة فيما فصولها كانت تتوالى على طاولة مجلس الوزراء واروقة الوزارات المعنية منذ 25 عاما؟
هذه هي قصة الحوض الأول
في عام 1992، تحديداً قبل الإنتخابات التشريعية في تشرين الأول من ذاك العام، كان العمل على المخطط التوجيهي لإعادة إعمار بيروت قد انتهى باشراف المهندس هنري إده، الذي وضع الدراسات الأولى لإعادة إعمار وسط بيروت، ولكن قبل إحالته على مجلس الوزراء، «وبعدما أُعدت جميع الوثائق الضرورية، طلب مني رفيق الحريري بعض الإيضاحات حول الحصة العائدة للدولة في أراضي المرفأ»، بحسب ما كتب ادّه في مذكراته. أراد الحريري «معرفة وجهة نظري (ادّه) في التعويض الذي يجب أن تدفعه الشركة العقارية للدولة في مقابل التنازل لها عن هذه الأراضي». قدّر ادّه قيمة العقارات في هذه المساحة، مُضافة إليها المساحات القابلة للبناء والأسعار المتداولة بالنسبة إلى أوضاع مشابهة، «بما يقرب من 400 مليون دولار». يروي ادّه ان الصدمة كانت في ردّ الفعل الاول للحريري، الذي «رفع ذراعيه إلى السماء، وقال لي إنه لا مجال لديه لا لدفع مثل هذا المبلغ الهائل، ولا للتخلي عن هذه الأراضي»، طالباً في الوقت نفسه من إده إيجاد «الوسائل الكفيلة بتقليص المبلغ الذي أعلنته». ففي ذلك الوقت، كان الحريري يُخطط لدفع مبلغ 60 مليون دولار فقط لا غير «ويُصرّ على أن تُزاد المساحات القابلة للبناء المتوقعة في تصاميمنا زيادة ملحوظة كي تعوض النقص الضائع في الأرباح». صمّ الحريري أذنيه عن كلّ كلام يُنبهه من عدم إمكانية زيادة الكثافة، حتى إنّ التنظيم المدني أصدر عام 1992 أوامره بضرورة «تقليص الكثافة الملحوظة»، ولكنه تصرّف وكأنه أكبر من كلّ قرار أو رأي قانوني فـ«اتصل بوزير الأشغال العامة شوقي فاخوري (في حكومة رشيد الصلح) وأقنعه بأن يقترح على مجلس الوزراء، لا تجاوز رأي مجلس التنظيم المدني فقط، بل تجاوز ما هو أسوأ من ذلك أيضاً: زيادة الكثافة المذكورة بمعدل عشرين في المئة». وحين كان إده يعترض على مخططات الحريري كان يردّ عليه بأنه: «لكلّ مهنته». يقول ادّه، في هامش صغير اسفل الصفحة التي ذكر فيها هذه المعلومات، ان الحريري نجح في النهاية بالحصول على اراضي المرفأ من دون ان تسدد «سوليدير» اي ثمن لها.
يُكمل إده سرد الوقائع في كتابه، فيُخبر كيف أنّ أرصفة المرفأ تُركت لسوليدير «بحجة أنها جزء من الملكية العمومية التي لحظ القانون العائد إلى الشركات العقارية أن هذا النوع من الأراضي يُضم إلى الشركة دون مقابل، أما الأملاك الخاصة للدولة فتبقى ملكاً لهاتين الجهتين»، ولكن عملياً، «الأرصفة المحيطة بالحوض الأول للمرفأ هي جزء لا يتجزأ من ملكية الدولة الخاصة». يكشف إده عن تلاعب في البند الأصلي الذي أضيف إليه أنه «وحدها العقارات التي تحمل رقماً في سجل المساحة تؤخذ بعين الاعتبار». الحقيقة أنّ «هذه الأرصفة وضعتها الدولة في التصرف الحصري لشركة المرفأ المكلفة استثماره. والدولة لو أرادت أن تترك أراضيها لكان يحق لها بأسهم مساوية لقيمتها».
هكذا جرى الاستيلاء على ملك الدولة
رُبط مشروع إعادة إعمار وسط بيروت بإنشاء شركة عقارية، «ولكن أُنشئت شركة واحدة، وفوض رئيس مجلس الانماء والاعمار في حينه الفضل شلق صلاحيات السلطة الرسمية في علاقاتها بالشركة العقارية»، بحسب ما ذكر ادّه. وتوالت عمليات قضم اراض الدولة والحقوق العامة، ففي جلسة لمجلس الوزراء في شباط 1994. أدخلت، بناء على طلب «سوليدير»، تعديلات جديدة على المخططات التوجيهية السابقة «مانحة سوليدير امتيازات إضافية فاضحة من دون أي مبرر أو مقابل. فالخط البحري الذي يُفترض أن يُكمل حزام وسط المدينة، في كل المخططات السابقة، ألغي، ومعظم المواقف العامة الملحوظة في الأصل حُذفت واستبدلت بها كاراجات خاصة تحت الأرض… خلافاً لأحكام القانون المنشئ للشركات العقارية، القاضي بأنه يجب إقرارها وإنشاؤها على أساس مخطط توجيهي يُوافق عليه مسبقاً». هذا التعديل، نقل من جملة ما نقله الحوض الأول إلى «المرّبع الخاص» للشركة العقارية.
قدّرت قيمة عقارات
القاعدة البحرية بنحو 400 مليون دولار عام 1992
لم يكن إمتياز مرفأ بيروت دائماً مع الدولة اللبنانية. قبل نهاية مرحلة الإنتداب، إستثمر الحوض الأول الفرنسيون. استردّته الدولة بعد عام 1943 وأدارته «شركة إدارة واستثمار مرفأ بيروت» برئاسة الوزير الراحل هنري فرعون. في عام 1990، عاد الامتياز من جديد للدولة اللبنانية.
يفتح مسؤول «فئة أولى» سابق في مدينة بيروت، خرائط مخططات «سوليدير»، مقارنا بين تخطيط عام 1992 وتعديلات عام 1994. العلامة التي يهتدي بها هي الخط البحري: «قبل أن يُلغى لم يكن المرفأ يقع ضمن نطاق سوليدير، ولكن بهدف إعطاء إمتيازات إضافية لها ومن دون مقابل، ألغي هذا الخط». يقول إنّ «سوليدير» عمدت إلى «دمج العقارات الخاصة بالدولة بالعقارات العامة، حتّى تضمّها وتفرزها من جديد». هو نوع من الاحتيال مارسته الشركة «لتدعي أنّ العقارات العامة أصبحت ملكا لها، فتُسيطر على الحوض الأول». وما الهدف إلا «إقامة مشروع سياحي يمتد من البيال وصولاً إلى الحوض الأول». هذا المشروع السياحي قديم ايضا، وقد جرى الترويج له اعتبارا من عام 2006، يومها اعلنت «ليفانت القابضة» عن اطلاق مشروع «القرية الفينيقية». توقف المشروع بسبب الأوضاع الأمنية وأعيد البحث به عام 2008، ولكنه لم يُبصر النور. «القرية الفينيقية» عبارة عن برجين سكنيين وفندقين ومركز تجاري على مساحة 250 ألف متر مربع، فضلاً عن المطاعم وموقف للسيارات يتسع لـ 4 آلاف سيارة. وكانت الشركة الكويتية قد اشترت العقار 1501 من «سوليدير» التي تسعى حالياً، وفقا للمعلومات، إلى استرداده.
يبلغ عدد العقارات في تلك المنطقة سبعة ومساحتها قرابة الـ 100 ألف متر مربع. يقول المسؤول السابق إنّ «60 ألف متر مربع، تقريباً، هي أملاك عامة والـ40 الباقية أملاك خاصة للدولة. قيمة هذه العقارات، كانت في حينه (1992)، بحدود الـ400 مليون دولار». يُشدد المسؤول في حديثه على أهمية الحفاظ على الأرصفة، فهنا لبّ الموضوع: «حين تضع سوليدير يدها عليها، ستدعي أنّ إدارة المرفأ أصبحت من صلاحياتها. تريد الحصول على امتياز ليس من حقها».
المواجهة اصبحت مع الجيش
مرّت الأيام ولم تتخلّ «سوليدير» يوماً عن حلمها بضم الحوض الأول إلى لائحة «إنجازاتها»، على اعتبار أنّ كل الواجهة البحرية لبيروت ملك لها. عقبة أساسيّة واجهتها هي إشغال الجيش اللبناني للقاعدة البحرية. أولى «المواجهات» بين قيادة الجيش و«سوليدير» تعود إلى عام 1996، يوم طلبت حكومة الحريري إخلاء «القاعدة» واصطدمت بمعارضة قائد الجيش وقتها إميل لحود. فالشركة العقارية تدّعي ملكية مساحات تشغلها «القاعدة»، علماً أنّ القرار رقم 144/S الصادر في 1925/6/10 يُعرّف الأملاك العمومية بأنها تشمل جميع الأشياء المعدّة لاستعمال مصلحة عمومية، لا تباع ولا تكتسب ملكيتها بمرور الزمن. ومن هذه الأملاك: إنشاءات التحصين والمراكز الحربية والعسكرية... فضلا عن ان الشاطىء والبحر هما من املاك الدولة العمومية.
لا تعترف «سوليدير» بأي نص قانوني، وهي «عملت طيلة سنوات على ضّم أمتار من المساحات التي يتمركز فيها الجيش بحجج متعددة»، على ذمة مصدر متابع للملّف. يقول المصدر إنّ الملّف فُتح من جديد «بعدما عاين وزير الدفاع سمير مقبل، منذ سنة تقريباً، المرفأ وبحث الأمر مع الجهات العسكرية المعنية». لا يؤكد المصدر حصول مفاوضات من أجل أن يخلي الجيش «القاعدة»، وخاصة بوجود موقف سياسي غير معارض لذلك، «الأكيد أنّه إذا كان هناك حديث مشابه، فقد توقف الآن»، إلا أنّه يؤكد «توقيع مُقبل منذ أسبوع، تقريباً، طلب تنظيف الحوض الأول وبكلفة مليون دولار تقريباً». ووفق أحد الخبراء المطلعين «الحوض نظيف ولكنّه قد يكون إجراء تمهيدي للسيطرة على المكان». المصدر المتابع للملّف يوضح أنه في ما خصّ المعدات والآليات العسكرية «قاعدة جونية تُعدّ أهم من قاعدة بيروت، إلا أن الأخيرة هي أساسية استراتيجيا. لذلك من غير الممكن أن يخلي الجيش المكان حتى لو أتت الموافقة السياسية».
استبدال باب «الشامية»
يُسلّط الضوء من جديد على المرفأ بعدما طلبت إدارة واستثمار مرفأ بيروت، في تشرين الثاني الماضي، من محافظ بيروت زياد شبيب استبدال الباب الغربي للمرفأ، المعروف بـ«الشامية»، بمدخل جديد قرب مبنى الجمارك. وافق شبيب على اعتبار أنّ «هذا الاقتراح سيسهّل الحركة المرورية ويُخفف من الازدحام»، خلافاً لما يؤكده عدد من الوكلاء البحريين أنّ ذلك «سيُعرقل الحركة وخاصة للمركبات الآتية من الجنوب». يعتقد هؤلاء أن استبدال المدخل ما هو الا الخطوة الأولى في مشوار الاستيلاء على المرفأ «وهو تمهيد لإعادة ردم الحوضين الثالث والرابع». هذه المرّة يبدو أنّ الشركة ماضية في مشروعها «وهي بدأت بيع مواقف لليخوت في الحوض الأول. يريدون تضييق الخناق علينا وعلى عملنا». يسعى الوكلاء البحريون إلى وضع الملّف على جدول أعمال البطريركية المارونية والأحزاب السياسية ولكن حتى الساعة لم تُثمر جهودهم: «حتى ولو أقفلنا الطريق وحدنا، المغامرة جديرة بأن تُخاض. هذا البحر لي. لنا جميعاً. وهذه المساحات هي حقّنا الذي نسعى إلى الحفاظ عليه في وجه حيتان المال».
استعادة املاك الدولة
إذاً، السعي الى مصادرة القاعدة البحرية يعود إلى بداية تسعينات القرن الماضي. نجحت «سوليدير» في مسعاها، وبيعت العقارات في تلك المنطقة، ومرّت المشاريع المتعلقة بها في جلسات مجلس الوزراء دون أن يُسجل أحد اعتراضه. تعبير بعض القوى عن «دهشتها» الآن، قد يُعد نوعا من التراجع عن الخطأ. ولكن لا قيمة له إذا لم يقترن بإحالة الملّف على القضاء ومساءلة «الشركة العقارية» وكلّ من مدّ لها يد العون، إضافة إلى العودة إلى القوانين التي تسمح للدولة باستعادة أملاكها دون تعويض. خلاف ذلك، يوضع كل سجال «تويتري» والردود عليه في خانة خداع اللبنانيين.
جنبلاط يغرّد ومقبل يرد
أثير ملفّ الحوض الأول والقاعدة البحرية من جديد يوم أمس، بعدما غرّد النائب وليد جنبلاط على «تويتر» عن«شركة عقارية معروفة استملكت القاعدة البحرية للجيش اللبناني بموافقة وزير الدفاع وغيره من كبار المسؤولين». رئيس حزب التوحيد العربي وئام وهاب ردّّ على جنبلاط، قائلاً إنّ «الأملاك البحرية طارت نتيجة سياسة بعض الوزراء الذين تعاقبوا على وزارة الأشغال»، متمنياً عليه «عدم الضرب في سوليدير كي يصيب في سبلين». أما مكتب وزير الدفاع سمير مقبل، فنفى عبر بيانٍ المعلومات المتداولة، مؤكداً أنّ الخبر يفتقر إلى الصحة والاساس. هناك دعوى بهذا الشأن لدى المحكمة الابتدائية في بيروت منذ عام 2010».