بدأت شرارة الحريق العربي من تونس، تحت عنوان «ثورة الإصلاح» وسارع الإخوان المسلمون وبتوجيه وتنسيق مع الخارج إلى وضع اليد على «الثورة ضمن مشروع إقليمي دولي عام يقوده التنظيم العالمي للإخوان وتتصدّره تركيا وقطر. مشروع يرمي إلى إقامة قوس الإخوان المتداخل مع حلم الإمبراطورية العثمانية الجديدة بقيادة تركية وتمويل وإعلام قطري».
لكن المحاولة فشلت بعد أن سدّدت لها ضربات موجعة وقاصمة في كل من مصر وسورية، ما أدى إلى انكفاء الإخوان والتعامل مع الوضع التونسي بعقلانية تعتمد مبدأ سياسة تحديد الخسائر. وتراجع حزب النهضة الإخواني عن سدة الحكم لينكفئ إلى الخلف ويجعل آخرين يقودون البلاد دون أن يكون في قيادتهم مسّ أو إلغاء للإخوان أو لدورهم في تونس، وقد استفادت تونس في أمنها من هذا السلوك واستطاعت ان تحرك العجلة السياسية الداخلية وتتجه نحو إعادة البلاد إلى الوضع الطبيعي الذي يقربها من السياسة الخارجية التقليدية لتونس والتي تقوم على عدم التدخل في الشؤون العربية الداخلية ورفض سياسة المحاور، من جهة ومن جهة ثانية ترك مساحة ملائمة للشعب التونسي للتعبير عن انتمائه العربي والتزامه بالقضايا العربية الأساسية، خاصة قضية فلسطين وما يتصل بها.
وقد قادت المراجعة السياسية التونسية تلك إلى إعادة النظر بالموقف التونسي من الأزمة السورية وما يجري عبرها من عدوان خارجي بتنفيذ عربي وإقليمي على سورية وبمشاركة فردية من تونسيين جاؤوا تحت عناوين متعددة للانتظام في صفوف المجموعات الإرهابية التي تفشت في الداخل السوري، كما تسبّبت المراجعة بإعادة النظر بقطع تونس لعلاقاتها الدبلوماسية مع سورية بشكل يوحي بتحضير تونس لتغيير النهج الإخواني في السياسة الخارجية، ومؤخراً كان الاختبار الأول لتونس في علاقاتها العربية ونظرتها للمقاومة، فبعد التجاذب الحاد حول مسألة التطبيع مع إسرائيل والموقف الشعبي الرافض له، كان اجتماع مجلس وزراء الداخلية العرب في مقره الأساسي في تونس، وما حصل فيه من خدعة دبلوماسية قامت بها السعودية وخلفها دول الخليج الأخرى، خدعة أدت إلى تمرير إلصاق تهمة الإرهاب بحزب الله في البيان الذي اعتمده المجلس في ختام أعماله الدورية.
لقد شعر التونسيون بشكل عام والحكومة التونسية معهم أنهم وقعوا ضحية خداع خليجية، أدت إلى دفعهم للظهور في مظهر يغاير حقيقة مواقفهم من المقاومة التي ينظمها حزب الله التي ينظرون إليها بكل احترام وتأييد ويقدرون دورها، كما يعولون عليها في الصراع مع إسرائيل، لكل ذلك كان التحرك الرسمي والشعبي الرافض لتصنيف حزب الله إرهابياً، وكان الموقف الرسمي الذي عبّر عنه رئيس الدولة رفضاً للخدعة والتمريرة الخليجية، وشكل ذلك الذي تبعه موقف جزائري مشابه والذي كان سبقه موقف لبناني وعراقي متقدّم في هذا الشأن، شكل صفعة قوية لمملكة بني السعود أظهرت أن الإجماع العربي الذي تدعيه ضد حزب الله إنما هو كذبة كبيرة وتزوير لا يمكن أن يستمر، ما أدى إلى جنون إضافي يرفع منسوب الجنون والهستيريا السعودية نتيجة فشلها وإخفاقها في العدوان على اليمن الصامد والبحرين الصابرة ولبنان المستعيد لقراره من اليد السعودية والعراق وسورية، حيث تحطمت الخطط والأحلام السعودية عند أقدام أبطال الجيش الوطني في كل من الدولتين ومعهما رجال الدفاع الوطني والحشد الشعبي والمؤازرة من محور المقاومة.
أمام هذه الصفعة المدوية التي وجهتها دولتان من دول المغربي العربي لهما وزنهما وموقعهما في السياسة العربية بشكل عام، وجدت السعودية نفسها أمام مأزق كبير يلزمها بواحد من أمرين إما القبول بالواقع وتسجيل هزيمة جديدة تضاف إلى سجل هزائمها ولكن تضعها في الموقع الطبيعي الذي يجب أن تكون فيه، أو القيام بردّة فعل انتقامي تعاقب تونس ومن بعدها الجزائر وتلزمهما بالعودة إلى «بيت الطاعة السعودي» والموافقة على ما تريده السعودية من قرارات تمليها على الجامعة العربية تحت عنوان «إجماع عربي» مزعوم.
ولأن السعودية تتصرّف اليوم بعيداً عن المنطق والعقلانية والواقعية، ويقودها جنون سياسي واستعلاء وغطرسة يمنعها عن القبول بالهزيمة، فقد اختارت الرد الناري على تونس أولاً لتكون المدخل إلى معاقبة الجزائر بعد ذلك، ولهذا لجأت السعودية إلى سلاحها الأساسي في العدوان على العرب والمسلمين ووجهت الإرهابيين من ليبيا إلى تونس ليلاقوا خلايا نائمة هناك تم تحضيرهم بفكر تكفيري وهابي لإقامة الإمارة الإسلامية المزعومة.
إن إقدام الجماعات الإرهابية على انتهاك سيادة تونس وسلامة أراضيها إنما هو عقاب سعودي يفرض على تونس لمنعها من الاسترسال في مخالفة المملكة المتغطرسة. وهي رسالة أولية أيضاً توجه إلى الجزائر معها لتصلها قبل اجتماع مجلس الجامعة العربية على صعيد وزراء الخارجية في القاهرة وقبل اجتماع مجلس القمة العربية المزمع عقده في موريتانيا في الشهر المقبل. رسالة تذكّرنا بالتهديد الخليجي للجزائر في العام 2011 عندما رفضت تجميد عضوية سورية في الجامعة، فكان الرد القطري وباسم مجلس التعاون الخليجي كله، كان ردّ بتهديد الجزائر بأن «الدور جاي عليكم» ويعني أن النار والحريق الذي يتبعه التجميد والإخراج من الجامعة كما حصل مع سورية.
لقد اختارت السعودية ومعها ما يُسمّى مجلس التعاون الخليجي الإمساك بالقرار العربي وفرض إرادتها على الدول العربية وتحويل الجامعة العربية أداة لتسويق تلك القرارات، معتمدة في ذلك على المال والسيف. فأما الرشوة وشراء الذمم، أو السيف وقطع الرؤوس والمحاصرة. وتعتبر السعودية أن سياسة المال والسيف هي أفضل أسلوب لبقائها متربّعة على كرسي قيادة العالم العربي. ولهذا فإنها «تلوح بالمكرُمات» فإن لم تحقق الأهداف عادت وحجبتها كما حصل مع لبنان مؤخراً، وتمارس العنف والإرهاب بكل صوره، كما يحصل مع حزب الله حاضراً ومع تونس أخيراً.
وعلى هذا الأساس نرى أن ما حصل في بنقردان في تونس من اعتداء إرهابي هو رسالة سعودية أولية لتونس والجزائر معاً، تريد السعودية منهما التراجع عن المواقف الاستقلالية الرافضة للعدوانية السعودية على المقاومة وعلى الدول العربية ضحايا السعودية، فإن استجابتا للرسالة كان به وإلا فإن السعودية ومن معها من منظومة العدوان على العرب والمسلمين ستتابع الترهيب والترغيب حتى يتحقق الانصياع لها.
وفي المقابل نرى أن التصدي للعدوان على تونس هو مسؤولية عربية وإسلامية عامة إضافة إلى المسؤولية التونسية. وصحيح أن الحكومة التونسية ومعها الشعب للتونسي هم المسؤولون أولاً انطلاقاً من واجباتهم الوطنية في تحقيق الأمن والدفاع عن البلاد، كما أن الجزائر معنية بالتحضير لمواجهة عدوان سعودي إرهابي انتقامي ضدها، وكما قلنا سابقاً نقول اليوم يجب منعُ السعودية من الانتصار في أي عدوان تمارسه ضد أي دولة أو فئة لأن انتصارها هنا يشجعها على عدوان جديد هناك. أما هزيمتها فقد توقفها عن مغامراتها وخيالها وتمنعها من الاسترسال في العدوان. لذلك يجب أن تثبت هزيمة السعودية في كل الميادين التي مارست عدوانها فيها، وفي طليعتها اليوم اليمن ولبنان وتونس، بعد أن تأكدت هزيمتها في العراق وسورية والبحرين، فمواجهة السعودية اليوم تكاد تكون مواجهة من أجل السيادة والقرار المستقل ورفضاً للتبعية والهيمنة التي تمارسها أسرة بني سعود التي صادرت ثروات الجزيرة العربية وتريد أن تتحكم بالعالمين العربي والإسلامي خدمة لإسرائيل في سياق ما بلورته اليوم معها من مشروع صهيوسعودي.