قد يرغب البعض في تبسيط مسألة استقالة الوزير أشرف ريفي، ويعتبرها فورة غضب من "إهانة" تلقّاها من الرئيس سعد الحريري عندما تبرّأ من خطابه السياسي وأعلن أنه لا يمثّله، وقد يذهب البعض الآخر إلى أن الكرامة الشخصية للوزير ريفي أملت عليه الانسحاب من الميدان، بعد هزيمته كوزير للعدل أمام قرار المحكمة العسكرية إطلاق سراح الوزير السابق ميشال سماحة، لكن يبدو أن المسألة أكبر بكثير، وليس هناك وزير سُنّي يجرؤ على ترك مهامه بدون قرار سعودي.
عاد الرئيس سعد الحريري أم غادر إلى السعودية لأسباب عائلية، فهو لم يعد رجل السعودية الأول أو الأوحد على الساحة، لأن غيابه الطويل عن شارعه لم يعوّضه حضور "ملائكته"، سواء أكان الرئيس السنيورة، أو سواه من صقور "تيار المستقبل"، والزيارات الاستعراضية التي قام بها إلى معاقله القديمة لم يقطف منها وهج "عودة الغائب"، لأن الجماهير قد ضمرت أمام الوعود العرقوبية والخطاب المفلس، واللقاءات البورجوازية لا تستعيد جماهير.
الاستقبال الخجول والباهت للحريري أمام جامع الصديق في طرابلس، حسم حجم الرجل طرابلسياً وشمالياً، والاستقبال المميَّز له من طرف السيدة ميريام سكاف في زحلة لن يرقّع جفاء الشارع السُّني، ومبخرة عاصمة الكثلكة لن ترفع بركتها من أسهمه، والمسألة اللبنانية ذهبت بعيداً عن أجواء الانتخابات الرئاسية والنيابية والبلدية، والعين اللبنانية يجب أن تبقى على الشمال، لأن العين الإقليمية عليه كآخر نقطة انطلاق لتحقيق النصر في سورية، وبانتظار أن تتكشف وجهة الباخرة الموقوفة، فهي لم تكن بعيدة إطلاقاً عن وجهة الباخرة "لطف الله-2"، ولا عن التوجّهات الجديدة للدور المطلوب من الوزير أشرف ريفي، ليس في جبل محسن هذه المرة، بل نحو الحدود السورية، لتحقيق النصر على الهدنة السورية المعلَنة، لأن غياب إمكانية التوتير من الحدود التركية بضغط جوي روسي أقفل هذه الحدود، وفتْح حدود لبنان هو البديل الوحيد.
لا تستطيع السعودية إعلان هزيمتها في سورية حالياً، وممنوع للهيبة الملكية أن تنهزم في اليمن وتنكفىء في العراق، وأن تدفع أيضاً ثمن هدنة فرضتها روسيا ومعها أميركا على الأرض السورية، وحيث إن كل الأحلاف التي أقامتها المملكة، وكل المناورات التي أحرقت فيها المليارات من الدولارات، وكل محاولات التدخّل البري السعودي المدعوم خليجياً لن تسمح بدخول أي قوات برية بشكل علني إلى سورية، فإن الجبهات المموَّهة تحت ستار دعم "الثورة السورية" هي السبيل الأوحد، ومشكلة لبنان أنه الأوحد ومن النافذة الشمالية لدخول سعودي بمقاتلين متطرفين لبنانيين وسوريين إلى سورية.
السعودية كنظام تخوض معركة هيبة النظام، وهي لم تفتقر بانهيار أسعار النفط إلى حد عدم القدرة على فرض هيبة العرش لتحقيق نصر ولو بسيط عبر استمرار إشعال النار السورية، خصوصاً أنها فشلت في العراق، وضمن منطقة الأنبار، في إقناع السُّنة بالذات أنهم قادرون على استعادة المناطق بدون مساعدة الحشد الشعبي "الإيراني" الولاء بنظرها، وهي في اليمن "تنتصر" لتتسلّم "داعش" و"القاعدة" المناطق "المحرَّرة"، وهذا التخبط يقود القيادة السعودية إلى مزيد من التهوّر، وسيقود "المتسعودين" في لبنان تحديداً إلى مهوار المغامرة، ومن الشمال، وعلى الحدود مع سورية.
لا مخاطر من صدام محتمَل في لبنان شبيه بـ7 أيار، ربما لعدم توفّر مناطق التماس حالياً في بيروت وصيدا، بفضل جهوزية الجيش، لكن التقليل من مخاطر ما يتكرر في منطقة السعديات قد يكون الفتيل الذي يستجلب ردود الفعل الطرابلسية والشمالية بشكل عام، وهذه هي المهمة المطلوبة من بعض اللبنانيين حالياً، وإذا كان الإعلام اللبناني يتلهّى حالياً بترددات استقالة ريفي، واستعادته لحريته من قيود الحريري واستلام الزعامة الطرابلسية، فإن طرابلس التي رقصت فرحاً منذ يومين لطفلة لبنانية متفوّقة في عالم الفن والإبداع ورسالة السلام، يراد لها قريباً أن تعود بؤرة انطلاق حرب الانتصار السعودي في سورية من الأراضي اللبنانية الشمالية، وإذا كانت "شقيقة لطف الله" قد لحقت بسابقتها، فإن البحر مفتوح لأدوات الإرهاب، ولو أن لبنان محصَّن حتى الآن بفضل الجيش شمالاً، وبفضل المقاومة شرقاً وجنوباً، من مخاطر الريح الشمالية المتوقَّع هبوبها في أية لحظة.