في زمن الهناءة، كان خليل صابات يقضي إجازة الصيف في بلدة ضهور الشوير، وغالباً ما كان يتردّدُ لزيارة صديقهِ مُثَلّث الّرحمة، المطران يوحنا منصور، في المقرّ البطريركي -الربوة، حيثُ روى لنا ذات يوم هذه الحلاوة الملأى بالعِبَر، قال: إنّه بعدَ حصوله على شهادة الدكتوراه في الآداب، ألْحَقَهُ عميدُ الأدب العربي، الدكتور طَهَ حُسَيْن، للتدريس في كليّةِ الآداب في جامعة القاهرة، في بداياتِ خمسيناتِ القرن الماضي .
ويروي صاباتُ، أنه بعدَ مُضيِّ نحواً من سِتَّة ِ شهورٍ على إنتظامِه في هَيئةِ التدريس، سألَهُ الدكتور طهَ حسين، عَنْ سببِ عدمِ مرورهِ الى مكتب القيِّمِ المالي للجامعة، لقَبْضِ المُسْتَحِقّاتِ الواجِبَة له؟ ولماذا لا يَسْأَل عَنْ موعِدِ قَبْضِ ما لَهُ مَنْ جُنَيْهات؟
فأجابه الدكتور خليل: "يا سيادةَ العميد، أنا أفتخِرُ بثلاثة:
1- أنَّني إبنُ مِصْر
1- أنَّني إبنُ أبي
3- وأنَّني أستاذٌ في جامعة القاهِرة!
وانا يا سيِّدي العميد، أَعْتَزُّ كثيراً، أننّي أعاوِنُ والدي في صِنْعَتِهِ، وأُلاحِقُ حُقوقَ زَبائِننا، وأُتابِعُ خِدْمَة المِهْنَة التي نَعتاشُ منها، وأحرَصُ على تَجْويدِ نَوْعِيّتها، إحْتراماً لأصُولِ المِهْنَةِ أَوّلاً، وحِرْصاً على كرامةِ النَّاسِ من زاويةٍ أُخْرَى... وأنا يا سيّدي العميد، لا أتورَّعُ، هناكَ، في دُكّانَةِ أبي، أنْ أسألَ عَنْ ألأجرِ وأطالِبَ بهِ، وألاحِقَ حَقّي ما إسْتَطَعَت... ذلك لأَنَّنِي أُقَّدِمُ خِدْمَةً وعملاً مأجوراً؛ ومن واجِبي أنْ أتَصَرَّفَ، كعامِلٍ و(صنايعي)، ولي في ذَلِكَ كُلُّ الفَخْرِ والعِزَّة !
أمَّا هنا في الجامِعة، فأنا أرى نفسي أستاذاً، أقومُ برِسالةِ التعليمِ والتثقيفِ ونشر المعارف ِ والقِيَم، وأحافِظُ على كرامة الأستاذ ومَوْقِعِه.
هناك، أنا أأكُلُ عَيْشي بِعَرَقِ يدي وتَعِبِ جَبيني...
وهنا، أنا أبْني مُسْتَقبلي وكِياني بِعَرَقِ قَلمي وجُهْدِ فِكْري!
وفي الحالتين، عَلّْمني أبوايَ أن اكونَ إبْنَ ضميري، وأن اكونَ مواطِناً تستحِقُّهُ مِصْرُ...
أمَّا عَنْ (فِعْلَتي)، فإنّني أرى، ولا أزال، أنَّ إدارة الجامعة هي التي عليها أن تبحثَ عن الأستاذ وتلاحِقَهُ لتدفعَ له اجْرَهُ، وتدافعَ عَنْ حقوقه... لا أنْ يركُضَ الأستاذُ وراء أَجْرِهِ، ويقِفَ بالصَّفِ أمامَ موظّفِ المحاسبة، وكأنّه يستجدي حَقّه، ويَطْلُبُ رِضى ماسِك المالِ ومأمور الدَفْع!"
يضيفُ صابات، مُسْتَحْضِراً تلكَ اللحْظَة... "نَعَم يا سيادةَ المطران، قلتُ ذَلِكَ وتهيّبتُ الموقِف، في حضْرَةِ أميرِ الأدب العربي طه حسين، الضَرير الذي هابَهُ المُبْصرون، والذي تطلُّع إليَّ بتقدير ٍو كِبَر، وهنّأني على سلوكي الحافِظِ لرسالة التعليم وكرامة الاستاذ الجامعي، وأعطى تعليماته بأن تُدْفَعَ مُسْتَحِقّاتُ الأستاذ، في الصفّ أو في مكتب عميدِ الكُلّيّةُ، لا في شبابيك ودوائر إدارةِ الجامعة!"
ويُرْدِفُ خليل صابات: "عِنْدَها أَحْسَسْتُ فِعلاً أنني إبنُ مِصْر، وإبنُ أبي، وإبنُ الجامعة... من دون أيِّ شعورٍ بالطبَقِيَّة والتَمْييزِ الإجتماعي، ذَلِكَ أنني أَعْتَزُّ بأنّني إبنُ إسكافيٍّ يحترمُ مهنةَ أبيهِ وعمَلَهُ هناك، وأستاذٌ يفْخَرُ بمقامِهِ، ويحترم موْقِعَهُ ورسالتَهُ الأكاديميّة هنا...
* الدكتور خليل صابات مؤسِّس قسم الصحافة في جامعة القاهرة (1919-2001). واضِعُ كتاب (تاريخ الطباعة العربية) وغيره العديد من المؤلّفات، حول الصحافة والعلوم المعرفية والكتابة الإعلاميّة.