أنا الموقّعة أدناه هلا المرّ أقرّ وأعترف بأنني أنتمي إلى وطنكِ يا ميّ مرّ، أنتمي إلى لبناننا، الذي يبعدُ ملايين الكيلومترات الضوئية عن لبنانهم، هم من صنعوا لنا شهرة في الإعلام العالمي كأكثر بلد مطمور بالنفايات. أقرّ بأنني أتذكرك مع كل نفس أكسجين من هواء مشبّع من كرامة وميرون، أتذكركِ يا ميّ، أديبة ومؤرخة صاغت بحبر الإنتماء حلم وطن ركع أمامه التاريخ وإنحنت له السيوف اللامعة بحدّ الشمس.
يا ميّ، لن أخبرك عن وطن كتبتهِ وناضلتِ من أجله، فالكلام أنت من صنعه، والوطن أنتِ من صانه على الورق الصامد، بل سأخبركِ عن أوطان زرتها في الآونة الأخيرة، عن صحراء أنبتت مكان الواحات ناطحات سحاب وحضارة وقوة تكنولوجيا.
كنت في دبي مؤخّرا، وتذكرتكِ كما دائماً، في ليل من نسيم رمال ذهبية وطموح ماسي، تذكرتكِ في بلاد الجبهة السمراء التي قلّدت روضاتنا ببلاستيكية الروعة إلى حدود الواقع. تذكرتكِ، وتذكرت لبنان المترنّح بين الموت والموت، المكسور المبعثر كشظايا على أرض محروقة، نعم، أنا الموقّعة هلا المر أقرّ وأعترف بأنني لم أجد إلا الحبر سبيلاً لأخرج ما يعتلي صدري من غضب وخيبة.
ميّ، إنه الثامن عشر من آذار، ذكرى حجر مدحرج جديد يُضاف إلى سجلاتنا المسيحيّة، فنحن لا نموت كما قالت القديسة تيريزيا الطفل يسوع، بل ندخل حياة ناصرية، سرمديّة. لن أترحّم عليك ولن أنعيكِ، فنحن عشّاق الصليب المرفوع فخراً على جُلْجُلَةٍ، يغازلُ السماء على وعد القيامة. فأنتِ من دفعتِ أثمان مطهرٍ على الأرض، بإستماتتكِ الدائمة في الدفاع عن الحريّة المسيحية، عن الإنسان المسيحي المنتمي بعمق الأعماق، عن الصليب المرسوم على جبين جرن بوساعة نهر الأردن.
إنه الثامن عشر من آذار، وأنا أقرّ وأعترف بأن صدفةً أرضية، وإرادة سماويّة عن سابق إصرار وتصميم، جمعت ذكرى رحيلك الجسدي مع الأسبوع الذي يجمع صوم الشرق والغرب. نعم، إنهما متباعدان إلى هذا الحد، متباعدان بسياسات فرّيسيّة التقسيم، أعرف أنكِ لن تيأسي، فأنتِ من لبستِ إكليل الزواج مرتين مع زوجك فريدي في رسالة منك إلى وحدة الكنيسة، مرة أمام مذبح فاتيكاني مرتفع على صخرة بطرس، ومرة أخرى أمام أيقونسطاس بيزنطي مثلث التقديس.
أقرّ وأعترف بيقيني من إستحالة يأسكِ، فها هي قرية ضهور الشوير توحّد مشرقهم ومغربهم بمسيحنا الواحد، توحّد العيد على توقيت القلوب الخافقة كقلب مريم الطاهر، فالنسوة حاملات الطيب لم يحضرن الطيب والميرون والزيت بأوعية كاثوليكية، ولم يحببن المسيح بمشاعر قسطنطينية.
أنا الموقّعة أدناه، أكتب لكِ يا ميّ في زمن بات فيه أغلب سياسيي هذا البلد تجار هيكل، هراطقة، ومجدّفين عابدين لشيطان المال وأبالسة السلطة. لم يعد للسياسة في هذا البلد إلا خزائن متخمة من الأموال، ونفوساً خالية من أيّ كرامة. في هذا الزمن الرديء، أتحدى اليأس وأكتب لك، مدركةً بأنك ستواظبين على حبّ الوطن الجبراني، وتذكرينه بحبّات مسبحة وترنيمة مساء.
هو لبنان، الآثار التي نذرت قلمك وعيونك الساهرة من أجله، هي الآثارات المنتصبة بفخر الإنتماء في كل قطاع من أرضنا المقدسة، من كنيسة مار ميما أول كنيسة مارونية، إلى زحلة، وبشرّي، وادي قنوبين، نيحا... في كل زاوية من زوايا الوطن الحبيب أتذكركِ، ولا أنسى ما قلته لي عن أجران قانا، التي وجدوها مطمورة تحت النفايات، فصرّحت بكل فرح عن أول وآخر منفعة للنفايات، فهي حَمَتْ أجران أول أعجوبة للإله يسوع المسيح، أما الآن فالنفايات تطمر كرامتنا، وجودنا، تاريخنا، كياننا، صحتنا وأملنا.
أنا الموقّعة هلا المرّ، أقرّ وأعترف بأنني أرفع رأسي دائماً وأبداً بإسمك المتكرر ذكره على ألسنة المثقّفين والشعراء الذين واكبوا حقبة علّمت فيها وعملت عليها بالفكر والمعرفة، أرفع رأسي في كل مرة يستذكركِ وفيّ من أوفياء الكلمة والإيمان.
أتذكركِ، وأقرّ وأعترف بأنني أشتاق لكِ في كل يوم، في كل رسمة صليب من على مدخل كنيسة، في كل لحظة سكينة ترتاح فيها الروح ويستكين لها القلب. أتذكركِ يا خالتي، يا من صنعت مني جنديّةً مقاتلة في ساحات غزوة الترديّ الفكري، يا ليتنا نلتقي بمن رحلوا بين الحين والآخر لنلتحف بعزيمة مستوردة من سماء يسوع.
أنا الموقّعة، أخط توقيعي بفرح لا يعرف تردداً، لأن من يرحل يبقى، من يبتعد يمسي أقرب، ومن يموت يحيا، فهو قد غلب العالم، حقاً قام.