لم تترك القيادة السورية رغم طول الحرب وشدتها اي مدينة سورية طواعية، بل حاولت جاهدة ولا تزال الحفاظ على المدن ومراكز المحافظات وتطبيق نصائح الحلفاء والاصدقاء بامساك طرق الامداد في بعدٍ عسكري وسياسي يؤثر على مستقبل البلاد ووحدتها.
عملياً، هي نجحت بالإبقاء على أبرز المدن وأثقلها سياسيًا، لكنها خسرت الرقة ثم ادلب، وتتقاسم السيطرة مع المسلحين في حلب ودرعا، ومع "داعش" في دير الزور، ورغم الحصار الداعشي الطويل للمدينة من كل الاتجاهات والهجمات المتكررة والعربات المفخخة التي يرسلها التنظيم الى المدينة، الا ان القوات السورية تحافظ على وجودها داخلها وتدافع عنها.
ووفقا للمعلومات، فإنّ الرئيس السوري بشار الاسد أصر كثيرًا على وجوب مواصلة القتال في المنطقة الشرقية وارسل ابرز ضباطه المتمرسين الى المنطقة كاللواء محمد خضور والعميد عصام زهر الدين، وشدد الاسد اكثر على ارسال السلاح والقوات بعد خسارة الرقة وادلب عبر الطائرات، وكل ذلك لاغلاق ابواب التقسيم وترك نقطة ارتكاز في المنطقة.
والآن، تدور المعارك مع "داعش" في تدمر وحولها لفتح طريق دير الزور وفك الحصار عنها بقيادة القائد الابرز في الجيش السوري العقيد سهيل حسن الذي نجح في قتال "داعش" وفك الحصار عن مدينة حلب وسجنها المركزي ومطار كويريس والمحطة الحرارية وغيرها.
تشكل هذه الوقائع جزءًا صغيرًا من المعطيات التي يقدمها المسؤولون السوريون ليثبتوا حرص وتشدد القيادة السورية لمنع اي عملية تقسيم للبلاد، وفي كل نقاش عميق يوضحون للسائل لم يدفعوا كلّ هذه التضحيات للتفريط بوحدة سوريا والسماح بالتدخل في شؤونها، ويشيرون إلى أنّ العالم كلّه أجمع على أنّ "سوريا موحدة ديمقراطية وعلمانية"، وهذا يؤكد الرفض المطلق لأي فدرالية أو حكم ذاتي في أي بقعة سورية ان كانت الحسكة او ادلب او الرقة.
المعضلة في الحسكة
انطلاقا من ذلك، سقط حلم دولة "داعش" دوليًا وعمليًا على الارض، ومسألة هزيمتها مرهونة بالوقت لا اكثر، والاشهر القليلة المقبلة ستشهد ذلك. أما إعلان إمارة إدلب بقيادة "النصرة"، فمرفوضة بالكامل من الفصائل المسلحة في المنطقة، إن كان احرار الشام او تجمع الفصائل ضمن ما يعرف بجيش الفتح، وحاليًا تجري محادثات جنيف لفتح الباب امام الفصائل المسلحة في ادلب وغيرها للدخول في الحل السياسي على ارضية وثوابت جنيف.
المعضلة تبقى إذاً في الحسكة والاكراد، اذ يفصل "داعش" الحسكة عن باقي المدن السورية والقوات السورية ويفرض التنقل بينها ودمشق عبر الطائرات فقط ما يجعل المنطقة جزءًا مفصولا عن باقي البلاد.
يستغرب بعض السوريين ما يجري في الحسكة واعلان الاكراد عن مشروع فدرالية ويعتبرون ان المسألة ليست وليدة لحظتها بل تأتي وفقا لمسار طويل خاضه الاكراد وشجعتهم عليه جملة عوامل منها: تجربة اقليم كردستان العراق، ومسار العمليات العسكرية في المنطقة، والدعم الاميركي لهم ومن بعده الروسي في ريف حلب الشمالي والحسكة، بالاضافة الى تجربتهم في الادارة الذاتية في الحسكة ونجاحاتهم العسكرية، وانفصالهم جغرافيا عن باقي البلاد، ووجود ثروات نفطية مهمة في المنطقة التي يسيطرون عليها، لكن تبقى لديهم معضلة اعتراف الدولة السورية بهم والعالم.
حكم ذاتي منذ 2012؟!
تغيب الصورة عن تفاصيل الحياة في الحسكة والقامشلي والمناطق التي سيطرت عليها قوات سوريا الديمقراطية. وحدهم المقيمون في الحسكة يدركون ان لا فارق ما بين الاعلان والتنفيذ، اذ يتمتع الاكراد بادارة حكم ذاتي منذ عام 2012 وهم يديرون شؤونهم والمناطق التي يسيطرون عليها، إذ شكلوا وحدات الحماية الكردية واعلنوا بشكل واضح في الـ2014 قيام حكم الادارة الذاتية.
ووفقا للمعلومات فانهم يحمون المنشآت النفطية، والاهم ان لديهم وزراء ومقر للادارة الذاتية في القامشلي وقيادة عسكرية في عامودا، وتم انتخاب حاكم مشترك وهو شيخ عشيرة شمر الشيخ حميدي دهام، ولديهم في المناطق التي يسيطرون عليها شرطة داخلية يطلق عليها تسمية الاسايش ومهمتها فرض الامن الداخلي وقد بدلوا لوحات السيارات من السورية الى لوحات خاصة بهم ولديهم جمارك حتى انهم غيروا بعض اسماء المدن العربية، ولدى الاكراد جيش يسمى يبكا ووحدات حماية المرأة واستخبارات، وانشأوا بلديات في البلدات وفي الاحياء فتحوا مكاتب لـ"كومين" وهو يشابه عمل المختار في الاحياء كما انهم يجمعون الضرائب والرسوم الخاصة بهم، ومؤخرا الزموا اصحاب السيارات بتسجيلها في مديرية النقل لديهم واي حامل للسلاح يدخل الى مناطقهم بحاجة على سبيل المثال الى اخذ ترخيص منهم.
ويسيطر الكرد على معمل سويديه للغاز في جانب مدينة رميلان وعلى حقل رميلان النفطي ولديهم مطاران يمكن استخدامهما وهما مختلفان عن مطار القامشلي الذي تديره الحكومة السورية، وقد فرضوا التعليم باللغة الكردية من الصف الأول الى التاسع بكامل المواد والمناهج ما اضطر الحكومة السورية الى وقف المدرسين عن تدريس الطلاب بسبب عدم تمكنهم من اللغة الكردية، ولا يمكن دخول اي اعلامي الى مناطقهم دون الحصول على اذن منهم.
رعاية وتنسيق حكوميان!
خلال العام الماضي وسع الاكراد مدعومين بقوات التحالف الدولي سيطرتهم على محافظة الحسكة وشمال حلب على حساب تنظيم "داعش"، وكانت معركة عين عرب ومن بعدها مدينة الحسكة حاسمتين، اذ استطاعت وحدات الحماية الكردية التوسع في مدينة الحسكة اثر هجوم التنظيم الارهابي عليها في شهر رمضان الماضي واضطرت القوات السورية الاستعانة بهم والسماح لهم بالسيطرة على المناطق التي طردوا "داعش" منها، واكمل الاكراد معاركهم وسيطروا على سد تشرين ومؤخرًا مدينة الشدادي (قلب العروبة في الحسكة) وفي شمال حلب وصلوا الى مشارف مدينة اعزاز التي لا تزال بعيدة عن وصلها جغرافيا بمدينة جرابلس وبالتالي وصل المناطق التي يسيطرون عليها في الحسكة بحلب.
في مقابل التحرك الكردي، لم يتوقف تعاون الحكومة السورية والجيش السوري معهم بل استمرت الدولة في رعايتها وتنسيقها مع القيادات الكردية، فمنذ بداية الاحداث منحتهم الجنسية السورية وحافظت على علاقتها الجيدة معهم رغم اعلان قسم منهم انتماءه للجيش الحر، وشجعت بعض الشخصيات للاستمرار في التواصل معهم وانشاء احزاب ومن المعروف ان رئيس لجنة المصالحة في مجلس الشعب السوري عمر اوسي هو رئيس المبادرة الوطنية الكردية السورية وهو اول التشكيلات الكردية السياسية في سوريا ويشارك مع الوفد الرسمي السوري في محادثات جنيف. وعلى الارض، قام الجيش بتدريب الاف الشبان في منطقة الحسكة من الدفاع الوطني و"المغاوير" ولديه قيادة عسكرية في مدينتي الحسكة والقامشلي والاف العناصر ما بين جيش ودفاع وطني في المنطقة، ولا يزال مطار القامشلي يشهد حركة كثيفة مع دمشق ويرفد المنطقة بالمؤن ويتم التعامل مع الاكراد على اساس وجود الدولة السورية.
تفرض هذه الوقائع ايجاد معادلات مرنة ما بين الدولة السورية والاكراد، والحقيقة المغيبة ان جزءًا من الاكراد فقط يريد الانفصال او الفدرالية وان قسمًا كبيرًا من الاكراد يرفض الخوض في هذه التجربة، خصوصاً ان الاندماج في الدولة هو لصالح الاكراد بل ان الكثير منهم يرفض اعتباره كرديا بل سوريا ويتعامل على هذا الاساس ولن يدخل في المشاريع الدولية وكل ما يفضله ادارة ذاتية على ابعد حدود تشبه اللامركزية الادارية موسعة وليس فدرالية، فالاسئلة المطروحة حول الكيان الجديد كبيرة وعميقة حول هدف المشروع وامكاناته المستقبلية.