في كلِّ مرَّة يطلُّ علينا زَمَنُ الصَّوم، نتأَمَّلُ في ما يعني أَنْ ينقطعَ الإنسانُ عن الأَكل وأَنْ يمتنعَ عن تناولِ اللُّحوم وأَنْ يرشَّ الرَّمادَ على رأْسِه ذاكرًا أَنَّه ترابٌ وإلى التُّرابِ يعودُ. كلُّ هذا حسنٌ ومطلوبٌ، فالرجعةُ إلى التأَمُّل الهادئ بواقعِ الإنسان، تُشعِرُهُ بعبورِ أُمور هذه الدُّنيا ولو كانت من عطايا الله الخيِّرةِ للإنسانِ، وأَنَّ الانقطاعَ عنها دُربةٌ على قبولِ التخلِّي عنها وتوجُّهٌ نحوَ الأُمورِ الباقية.
إلى جانبِ كلِّ هذه، يقفُ المؤمنُ أَمامَ هذه التَقَويَّاتِ المطلوبةِ، ناظرًا في واقعِ عيشِهِ المليء بالجهدِ والمعاناةِ والسعي إلى أَسبابِ الرَّفاهِ والفرحِ في حياتهِ الدُّنيا، فيجدُ نَفْسَه أَمامَ مئاتِ الوعود الَّتي تصوِّرُ له السعادَةَ قريبة المنالِ، وأَنَّها آتيةٌ من مبتكراتِ العلمِ وتنظيماتِ العَقلِ البشريِّ، فالعقائدُ المجتمعيَّةُ تَعِدُ النَّاسَ بالعدلِ والسلامِ والسلامةِ والأَمانِ، والأَبحاثُ العلميَّةُ تعدهُ بالحلولِ لجميعِ المُشْكِلات الَّتي تعيق طريقَهُ إلى تحقيقِ أَحلامِه الدُّنيا في جميعِ مجالاتِ الابتكارِ والاكتشافِ والاختراعِ، وفي جميع الميادين الصِّحيَّة والتقنيَّة والغذائيَّة، وكلِّ ما يخطرُ ببالِ الإنسانِ من تجاربَ علميَّةٍ، تصلُ به أَحيانًا إلى خَرْقِ القوانينِ الطبيعيَّةِ والانتظامِ العامِّ الَّذي وضعهُ الخالقُ من أَجلِ حُسْنِ مَسَارِ الخليقةِ كي تخدمَ الإنسانَ وتجعلُ حياتَهُ طريقًا نحو الخلاص. هذا ولا ننسى بحثَ الإنسان عن سعادته في المَفاسدِ الإجتماعيَّة أَحيانًا كالعنف والجنس والإدمان، وفي بعضِ المعتقَدات الشيطانيَّة أَو التأَمُّلات العقليَّة التي تجعل من الإنسان مرجعًا لذاته من دون الله.
هذه الوعودُ الأَرضيَّة بالسَّعادة تَصلُ أَحيانًا إلى تضليلِ الإنسانِ عن طريقِ الحقِّ، وتؤَدِّي بهِ إلى الغَرَق في أُمور الوجودِ الزمنيَّة، الَّتي تقفُ حائلاً دونَ الانطلاقة الروحيَّةِ المطلوبةِ في كلِّ تأمُّلٍ يتجاوزُ ما يُرى إلى ما لا يُرى من خَلق اللهِ، وإلى العملِ على بلوغِ الغايةِ القصوى الَّتي بذلَ المسيحُ ذاتَه كي يَصلَ الإنسانُ لها.
في الصَّوم دعوةٌ إلى اكتشافِ أَسبابِ السعادة الحقيقيَّة، واكتشافِ فشل الوعودِ المحدودة الَّتي نضعها في أَولوِّيَّات حياتِنا، معتقدين أَنَّ فيها خيرَنا الأَسمى، بينما هي كلُّها كانت، وما سيأْتي بعدها، سيكون من أَجل إظهار مجدِ الله، ورغبَتِه في أَنْ يحيا الإنسانُ عُمْرَهُ على هذه الأَرض بفرح السَّعي والتمتُّع بخيراتٍ، شاءَها الله كي يكونَ الإنسانُ في جنَّة الأَرضِ، ليُدركَ أَنَّ جمالَ الوجودِ السُّفلي، ما هو إلاَّ صورةٌ باهتةٌ عن رَوْعةِ الوجودِ العلوي، وأَنَّنا أَمام كمالاتِ الأَرض، إذا وُجِدَت، نبقى كمَنْ ينظُرُ إلى الحقيقةِ في المرآة، على حدِّ قَوْلِ بولس الرسول.
وهكذا لا يكونُ الصَّوْمُ والانقطاعُ عن بعضِ التَّمتُّع بخَيْراتِ الأَرْضِ، احتقارًا أَو إهمالاً لهذه الخيراتِ، ولا يكونُ كذلكَ انفصالاً مُبْكرًا عمَّا يربط الإنسانَ برُبُطِ التُّرابِ الباردةِ، إنَّما الصَّوْم، بالإضافة إلى تتميم الوصيَّة والتمثُّلِ بالقدِّيسين الذين ينقطعون إلى العبادة بالصَّوم والصَّلاة، والتمثُّل بالسيِّد المسيح الَّذي صام وانتصرَ على جميعِ التجاربِ، هو إعلانٌ عمليٌّ وإقرارٌ ظاهرٌ من قِبل الصائم، بأَنَّ الوعدَ الحقَّ هو ذاك الآتي مِنَ الله، وأَنَّ جميعَ محاولاتِ الإنسانِ في سبيل إسعاد ذاته بذاته فاشلةٌ هي.