تشهد الساحة السياسية الدولية منذ أن سحب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جزءاً رئيسياً من قواته العسكرية من الجمهورية العربية السورية يميناً ويساراً في تفسير هذا القرار غير المفاجئ لمن يعلم طبيعة الفكر الإستراتيجي للرئيس الروسي ويقرأ مدى قوته في إقتناص الوقت المناسب لبلبلة العالم بـ"صورايخ" روسيا، ولو أتى "الصاروخ" أيضاً هذه المرة سياسياً أكثر منه عسكرياً ولئن كان بطائرات حربية.
قراءة هذه الخطوة من التيارات الدولية والمحلية المعارضة للرئيس بشار الأسد تعتبره إنتصاراً للمعارضة وبدء إنسحاب روسي من دعم الرئيس السوري للبقاء في سدّة الرئاسة لا سيّما بعد الإتفاق الأميركي - الروسي الأخير على كيفيّة إدارة أزمة البلدان العربية بدءاً من الدور المفصلي لروسيا بذلك. ضغطٌ على النظام؛ خلافٌ مع طهران، خلاف حول "حزب الله" وغيرها.... إستنتاجات عدّة تصبّ في مشهدية بعيدة.
في المقلب الآخر، دمشق وحلفاؤها في خطًّ متواز مع الحليف الروسي يجدون في هذه الخطوة أمراً طبيعياً عادياً بعد أن أنهت تلك القوات التي تم سحبها المهّمة التي وُجدت لأجلها بنجاح؛ فأعلنت المستشارة السياسية والإعلامية للرئيس الأسد بثينة شعبان صراحة أن هذه الخطوة أتت بعد تنسيق تام وكامل مع الحكومة السورية. وواضح إضافة إلى ذلك أنّ إمداد روسيا لسوريا بالسلاح مستمر كما الحرب على الإرهاب والعمليات قائمة.
وفي قراءة شبه جامعة للآراء كان واضحاً فيما بين الموالين والمعارضين للنظام في سوريا ما يؤكده المراقبون أن تنسيقاً كاملاً وإتفاقاً بين الرئيس الروسي فلاديمر بوتين والرئيس الأميركي باراك أوباما حول هذ الخطوة وغيرها يرسم المرحلة الحالية، ويشمل هذا الاتفاق وجوب إيجاد مخرج سياسي للأزمة السورية يلعب فيه الرئيس بوتين دور الوسيط ويحتفل فيه الرئيس أوباما بدور المنتصر قبيل إنتهاء ولايته.
لا شك أنّ هذه الوجهة التحليلية فيها من المنطق السياسي الكثير؛ إنّما وفي مشهدية أخرى ترفض إعتبار كلّ من روسيا وأميركا اللاعبين الدوليين الأساسيين في مصير العالم كقوتين عظمتين تهزان العالم بعصاهما السحرية؛ نجد أن العالم اليوم تتصارع للسيطرة عليه قوى عظمى متعدّدة لا سيما في تلك المنطقة العربية من الشرق الأوسط الذي تلعب فيه أيضاً كلّ من إيران، تركيا، الخليج العربي وإسرائيل دوراً أساسياً في تقرير المصير، ناهيكم عن الدول غير الجغرافية القائمة دون حدود ومعابر في الفكر الإرهابي التمدّدي التكفيري من جهة والفكر الصهيوني التدميري الإستعماري من جهة أخرى، الذي تواجههما بالمقابل المقاومة الإسلامية القومية العربية وعلى رأسها "حزب الله".
في خضمّ هذا الصراع، بدأ ما سُمِّي "بالربيع العربي" ليصل بشظاياه إلى "سوريا" بدءاً من "درعا" لتظهر بعدها المنظمات الإرهابية بتسميات شتّى وينقشع النقاب عن الدول الداعمة لكل منها مادياً كما لوجستياً وعقائدياً وبشرياً؛ "مؤامرة تفتيت سوريا"، إسقاط النظام، نشر الفوضى، إدارة توحّش، حروب، دماء، زوبعة فوضى وعنف وقتل؛ مليارات الدولارات أنفقت لتخريب سوريا؛ مخططات وتنظيمات وُلدت وتمنهجت في الغرف السوداء لأجهزة إستخبارات غربية وعربية؛ "كسر ظهر" محور الممانعة عبر السيطرة على سوريا الهدف الرئيسي لها الذي تستفيد منه إسرائيل أولاً بترسيخ أمنها عبر إضعاف المحور المتمثل بسوريا - إيران - حزب الله - روسيا وأيضاً العراق - هذا المحور الذي يشكل تهديداً وجودياً لها من جهة؛ وإرضاء تركيا مع ما يمثل ذلك من مصالح إقتصادية مشتركة فيما بين تركيا وإسرائيل وبلدان في الخليج العربي وغيرها من الأهداف من جهة أخرى إلى أن فاجأ صمود الرئيس الأسد وقوّة الجيش السوري وصلابة الدفاع والمقاومة ضدّ التنظيمات الإرهابية القتالية المنتشرة على الأراضي السورية بالتعاون مع "حزب الله" والحليف الإيراني والمقاومة الشعبية وغيرها من الفرق المشاركة في الحرب جنباً إلى جنب مع النظام السوري المجتمع الدولي، ليأتي بعدها الدعم العسكري الروسي فيسقط أولاً مشروع "سوريا الخلافة" الذي كان رصاصة مباشرة لنهاية سيطرة تنظيم "داعش" العسكرية منذ إعلانه؛ تلك السيطرة العسكرية الجغرافية البريّة التي كانت الباب الأول لتحقيق مشروع المؤامرة على سوريا وعلى المنطقة.
لن ينسى التاريخ؛ عندما وقف زعيم تنظيم "داعش" أبو بكر البغدادي، وأعلن نفسه أميراً للمؤمنين وأعلن دولة الخلافة على غرار الفكر "القاعدي" الذي يرتكز على طريقة الغلبة بالقهر والسيف (يتطابق مع رأي ابن خلدون) وهذا مبدأ قد تمّ توثيقه في العام 2007 أي قبل إندلاع الحرب في سوريا بسنوات عدّة في كتاب بعنوان "إعلام الأنام بميلاد دولة الإسلام" موقّع من مرجع سمى نفسه "بوزارة الهيئات الشرعية في دولة العراق الإسلامية". ويُعَدُّ هذا الكتاب ضمن الوثائق الخطيّة المؤرخة للفكر الإرهابي الإستراتيجي وللخطط التمدّدية أهم مخطوطة صادرة عن عقيدة "الزرقاوي".
أعلن البغدادي عندها دولة الخلافة التي تمتد من الرّقة إلى الموصل طامعاً بالدعم المادي والبشري واللوجستي لدول داعمة، فحدود خريطته شملت ولاية الرّقة - ولاية الحسكة - ولاية دير الزور - ولاية الحدود - ولاية الأنبار - ولاية نينوى - ولاية الشمال- ولاية ديالى- ولاية بغداد - ولاية الجنوب، وعادت بعدها أصوات داعشية توسّع في هذا الإنتشار لتشمل ولايات أخرى في سوريا والعراق وحتى لبنان وحصل ما أربك الدول المموّلة والداعمة لهذا المشروع؛ فإختلفت مواقف التيارات السياسية الإسلامية المتشدّدة وغير المتشدّدة.
تقاتلت الجماعات الإرهابية فيما بينها؛ أعلن تنظيم الأخوان المسلمين الذي تنبثق عنه منظمات عدّة أن "دولة الخلافة" لا أساس شرعي لها وهي لا تخدم "المشروع الإسلامي"- صمدت "بغداد"، إستنفرت جبهة النصرة وغيرها في سوريا، قتال عسكري، قتال خطابي، عنف غير إنساني، إرهابٌ، وكتابات سلفية متضاربة سياسياً ودينيياً، وتشتت المعارضة بوجهيها العسكري والمدني.
فشلت "داعش" التي بدأ اليوم بعض الإعلام بتسميتها "تنظيم الدولة الإسلامية"، بمحاولة ربما لفرض وجود أمر واقع لها في الأذهان قبل الأوطان يبعدها عن مفهوم القناعة الإرهابية في بعض العقول. إنما الحقيقة واحدة؛ عقرب الفكر التكفيري الإرهابي في سوريا المتعدّد الفصائل وجنوده على الأرض إنهزم عسكرياً بفعل تماسك وقوة سوريا وحلفائها وينهزم من داخله بفعل الإقتتال مع التنظيمات الإرهابية الأخرى.
إمتدّ هذا الإنهزام إلى فشل الدول الداعمة لمشروع تفتيت سوريا وضرب محور الممانعة ووضع خارطة جديدة في المنطقة؛ مسلسل أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأنور العولقي وأبو سفيان المصري وأبو مصعب الزرقاوي وأبو بكر البغدادي وغيرهم يشهد خواتيمه فما من شخصية إضافية قادرة على لعب الدور التأثيري الذي لعبه "السلف".
الإنتصار العسكري حسم سقوط مشروع السيطرة، على المنطقة العربية؛ إنهزمت المؤامرة واليوم منعاً من سقوط الدول المهزومة في مستنقع حرب عالمية شاملة؛ يقود فلاديمير بوتين سلاح المناورات السياسية مع حلفائه حيث مُتَّفق أن تظهر بعض "التنازلات" الخارجية من الفريق الآخر بعنوان "التسويات"؛ فروسيا اليوم بعد إنقاذها "سوريا الأسد" تهمّ لإنقاذ " بعض الإقتصاد العالمي".