حين اعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قراره الشهير بسحب معظم القوات الروسية من سوريا، اعتقد الكثيرون ان الامر سينعكس برداً وسلاماً على البلدين الاكثر اعتراضاً على التواجد العسكري الروسي وهما: السعودية وتركيا.
ولكن، وبعد ايام قليلة على هذا القرار والذي نفذ بسرعة قياسية، يبدو ان كلاً من البلدين وجد نفسه في موقف حرج لاسباب ومعطيات عديدة. فتركيا ارتاحت من التواجد العسكري الكثيف لروسيا على حدودها، ولكنها لم ترتح من مفاعيله، فالشبح الروسي يخيّم على انقرة كما لو كانت القوة الروسية لا تزال على حالها. عملياً، لا تزال تركيا "ممنوعة" من التحليق في الاجواء السوريّة، وما يمنعها فعلياً من ذلك هو الابقاء على منظومة الدفاع الجوي الروسي المتطورة والكفيلة بإثارة الرعب في نفوس الاتراك الذين لا يزالون يعانون من تداعيات اسقاط الطائرة الحربية الروسية منذ تشرين الثاني الفائت.
والحظر الجوي للاجواء السورية ينطبق ايضاً على الوضع البري، اذ لن تسمح موسكو لانقرة بالقيام بأي عملية "غزو" او "احتلال" برّي للاراضي السورية تحت اي ذريعة، وهي تستند بذلك الى اتفاق ضمني عقد مع الولايات المتحدة للتسويق للتسوية الشاملة ووضعها موضع التنفيذ. وبالتالي، يبدو ان التحرك العسكري التركي مقيّد، فيما تتعرض السلطات التركية لضغوط اكبر بالنسبة الى وجوب اغلاق حدودها مع سوريا لجهة منع تدفق المقاتلين.
سياسياً، قد تحاول تركيا ايجاد ارضية صلبة لفتح قنوات مع ايران والبحث معها في القضية السورية وكيفية تخطي العقبات والتنسيق معها حول تمتين الاستقرار وتعزيز الحضور السياسي للبلدين في ظل المستقبل الجديد الذي يتم رسمه.
في غضون ذلك، تجد موسكو نفسها مرتاحة للازمة التي تعصف بين تركيا والاتحاد الاوروبي في ما خص موضوع اللاجئين السوريين، كما تقف متفرجة على الحراك الكردي الذي يجهد لنيل منطقة حكم ذاتي ستشكل "وجع رأس" دائم للاتراك.
اما على الخط السعودي، فلا يمكن القول ان القرار الروسي ترك ارتياحاً لدى القيادة السعودية، لان البديل الذي سيتم التعاطي معه هو ايران، وهي انتكاسة اخرى ستزاد الى الانتكاسات المتكررة في الآونة الاخيرة بالنسبة الى المملكة. صحيح ان الانسحاب الجزئي لروسيا سيسمح للرياض بكسب نقطة معنوية كونها كانت ضد النشاط العسكري الروسي منذ بدايته، ولكنه سينعكس عليها احراجاً كبيراً لانها، وعلى غرار تركيا، ممنوعة من التحرك عسكرياً، كما انها باتت "تحت المراقبة" لجهة الدعم الذي كانت تقدمه للمعارضة السورية ولمختلف التنظيمات التي سمّت نفسها تحت هذا المسمى. ولا يخفى على بال احد مدى المشكلة التي تعاني منها الرياض مع اوروبا في موضوع حقوق الانسان، والتي تضاف الى المشاكل الاقتصادية والمالية، ناهيك عن خسارتها قسماً مهماً من "نفوذها" اقليميًّا والذي تضاءل بشكل كبير بعد الاحداث العربية ورفع الحظر عن ايران اثر اتمام الاتفاق النووي.
المخرج اليمني الذي بان للسعودية، اعطاها زخماً معيناً لاكمال مسيرتها الدبلوماسية ولكنه لن يكون كافياً لتحقيق مكاسب في المسألة السورية وحتى العراقية، حتى ولو حاولت نسج علاقات مع بغداد لمحاولة العودة الى الساحة، ولكنها ستفتقد الدعم المادي والدولي لمثل هذا الامر.
وليس من مصلحة السعودية التنسيق مع تركيا بشكل عميق، لان انقرة تضع نصب عينيها "الاستيلاء" على الدور السعودي، اي بمعنى آخر ان ترث الدور الذي كانت تلعبه السعودية سابقاً في المنطقة وان تكون الغطاء الجديد للسنّة، وهو امر يقلق الرياض ويضعها في موقف الحذر من الطموح التركي.
وكان يمكن للسعودية في حال بقاء القوات الروسية التحجج بأن وجود قوات روسية يسبب تعقيد المشكلة واطالة امدها في سوريا، كما يؤدي الى تزايد اعداد المنضمّين الى المنظمات المسلحة المعارضة للنظام، كرد فعل عفوي، ولكنها فقدت اليوم مثل هذه الذريعة وليس امامها سوى التأقلم مع الوضع في اسرع وقت ممكن.