إنقلبت فجأة صورة الرئيس الأميركي باراك أوباما، في إعلام محور الممانعة، فبدأوا بالترويج لما تم التعارف عليه بـ"عقيدة أوباما"، وذلك بعيد الإعلان عن الخطوط العامة لمقابلة مطولة أجرتها معه صحيفة "أتلانتيك"، وأظهر فيها بعض آرائه وقناعاته المتوافقة مع رؤى المحور المذكور. ومما ساعد على هذا الترويج مسارعة المحور المعادي لإنتقاد أقوال اوباما والردّ عليها أحياناً، وتصنيفه من جملة المنحازين الى نظام الرئيس السوري بشّار الأسد، وبائعي "الثورة السورية" التي علقت آمالاً كبيرة على الدور الأميركي.
وتجدر الإشارة إلى أننا كنا قد وصفنا أوباما قبل ظهور مقابلة "الأتلانتيك" بحوالي الأسبوع بأنه آخر الفرص العربية الضائعة، واليوم يمكننا أن نضيف أيضاً أنه قد يكون الفرصة الإيرانية الضائعة.
فمع تلقف الإعلام الإيراني وملحقاته الإقليمية لعقيدة أوباما، وإشباعها درساً وتحليلاً، للوصول الى نتيجة أن هذا الرئيس المغادر بعد أشهر قليلة قد تم فهمه بشكل خاطئ، وأن عناده الشخصي، وعدم أخذه بخلاصات مراكز الدراسات التي يعتبرها مُسَيَّسَة ومدفوعة الأجر، أدى به الى انقاذ الإتفاق النووي الإيراني من الإنهيار، وكذلك قراره الشخصي المخالف لتوجهات وزير خارجيته جون كيري، واللوبي السعودي-الاسرائيلي، هو من جنّب سوريا ضربة جوية كبيرة بحجة السلاح الكيميائي، كانت ستدخل المنطقة في حرب لن يعرف أحد كيف ستنتهي.
على أن المبالغة في التأثير الشخصي لأي رئيس أميركي في السياسة الخارجية ستكون ضرباً من السذاجة، لأن الأمر في النهاية مرجعه الى القوى الداخلية المتحكّمة بتخطيط الرؤية الإستراتيجية المستقبلية للولايات المتحدة. ومن هنا فإن مبادرة أوباما إلى تمرير الإتفاق النووي الإيراني، ومحاولته فتح صفحة جديدة مع الدولة الإيرانية، هو مجرد خطوة بناء ثقة، نجاحها مرهون برد فعل الطرف الآخر.
ومن الواضح أن الساحة السياسية الإيرانية يتنازعها إتجاهان:
1- الإتجاه الأول يرغب في فتح صفحة علاقات جديدة مع أميركا والغرب قائمة على أساس الإحترام المتبادل، والندّية في التعامل، لا الإستتباع والإستعباد الحاصل في العديد من الدول. وهذا الإتجاه يمثله التيار الإصلاحي عبر الرئيس السابق محمد خاتمي والرئيس الحالي حسن روحاني، وإنضم إليهما الشيخ هاشمي رفسنجاني أحد ابرز وجوه الثورة الإيرانية منذ انطلاقتها.
2- الإتجاه الثاني ما زال يكافح للحفاظ على شعارات الثورة الأولى والتي قامت في جزء أساسي منها على معاداة الولايات المتحدة، ورفض أي تقارب، أو تفاهم معها. وهذا التيار يمثله المحافظون ويرعاه القائد الأعلى السيد علي الخامنئي.
لا شك أن مهمة التيار الاصلاحي ستصبح أكثر صعوبة مع رحيل أوباما، لأن التيار المحافظ يستمد جزءًا مهماً من قوته من المواقف الأميركية المعادية للدولة الإيرانية.
لقد تقدم اوباما بالخطوة الأولى لبناء الثقة ليس فقط لتمريره الإتفاق النووي، وتهديده الكونغرس بإستعمال حق النقض تجاه أي قرار معرقل. بل أقدم على تنازل شخصي بالدرجة الأولى حين رفض الرئيس روحاني أثناء تواجده في نيويورك لحضور جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة، عقد أي لقاء مع أوباما ولو "على الواقف" داخل القاعة. فعمد أوباما إلى ملاحقة روحاني بإتصال هاتفي الى سيارته المتوجهة الى المطار للمغادرة. وكان لبضع كلمات المجاملة التي جرت بينهما وقعٌ سيءٌ في طهران المحافظة رسمياً. وتتالت خطابات السيد القائد لتعيد رسم الخطوط الحمراء في العلاقة مع الولايات المتحدة، وتحذر من منح "العدو" أي فرصة للدخول الى الساحة الإيرانية وبث الفرقة بين أبناء الشعب.
ويبدو أن المزاج العام في الشارع الإيراني قد تغير في السنوات القليلة الماضية، فلم تعد شعارات وحدة الأمة، وقوة الأمة، والصحوة، الخ... تجد صدى كافياً لمن لمسوا شدة العداء المذهبي المستعر في المنطقة، وضمور الشعور الإسلامي العام لصالح الشعور المذهبي أو القومي، وهذا ما برز واضحاً في نتائج الإنتخابات النيابية الأخيرة، حيث اكتسح الإصلاحيون المقاعد الثلاثين للعاصمة طهران، ولم ينفع الترويج بأن كلا الجناحين يصبان في النهاية في وعاء الثورة والإخلاص لها، لأن التمعّن في شعارات الحملات الإنتخابية يوضح بجلاء نظرة المحافظين الى الإصلاحيين على أنهم سيدخلون الأعداء مجدداً الى إيران من بوابة السياسة والإقتصاد.
ما الذي تطلبه ايران من الولايات المتحدة؟
ان المتتبع لخطاب المحافظين لن يمكنه العثور بسهولة على لائحة شروط إعادة العلاقات، فالأمر عندهم ليس على بساط البحث أصلاً، فأميركا هي الشيطان الأكبر وستبقى كذلك الى يوم القيامة! وما زال هذا الفريق يعيش جو العداء في بدايات الثورة حيث كانت الولايات المتحدة تدعم نظام الشاه وتغطي ارتكاباته بحق الشعب، ولم يستوعب هذا التيار الثوري الدرس الأول في السياسة الأميركية وهو "لا اصدقاء أو أعداء دائمين في السياسة"، فرغم أزمة رهائن السفارة الأميركية التي تركت جرحاً بليغاً في الشعور الوطني الأميركي، وإهانةً وتحدياً للدولة العظمى، الا أنها ابتلعتها بسهولة، وحاولت في أول فرصة مدّ جسور العلاقة من خلال صفقة "ماكفرلين" الفاشلة التي تحولت الى "ايران غيت". وها هي تعطي درساً جديداً في أن لا مكان لديها للعلاقات الشخصية بل للمصالح، وفقط المصالح، ورأينا كيف راقبت سقوط رجلها الأول في المنطقة الرئيس المصري السابق حسني مبارك دون التدخل لإنقاذه، بل ذهبت وقتذاك وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون بعد ايام من انتصار الثورة لزيارة ميدان التحرير وتهنئة الثوار!
أمّا التيار الإصلاحي فما يطلبه هو تطبيع العلاقات على قاعدة الإحترام المتبادل والإعتراف بدور إيران وحجمها الحقيقي. وهذا ثمن زهيد وشرط بسيط ستسارع الولايات المتحدة الخائفة من الأحلاف الدولية المستجدة إلى تنفيذه في أقرب فرصة، على الأقل لتحييد إيران عن ساحة المواجهة الدولية المضطربة على خلفية إستعادة الدور الروسي، والصعود الصيني.
ما نأمله أن تتمكن الجمهورية الإسلامية الإيرانية من رسم خياراتها بصورة ديمقراطية كما رأيناها مراراً في الإنتخابات النيابية والرئاسية، وأن تحافظ على الإنجازات الذاتية الكبيرة التي حققتها رغم الحصار الدولي عليها. ولكن عليها اولاً أن تعيد الصراع الى اطاره الجيوسياسي، وإبعاده عن الإطار الديني المهجوس دوماً بمحاربة الأعداء.