ليست أموال الإنترنت غير الشرعي وحدها التي تُهدر في دولة الزواريب والمزاريب، وعندما تتخطى المخالفات الأمور المادية وتلامس "الأمن القومي"، فليس الإنجاز في ضبط هذه المخالفات، بل بالتدابير الوقائية وأجهزة الرصد لمنع حصول هذا النوع من الجرائم، خصوصاً أن أدوات ممارسة الجريمة منتشرة في كابلات تحت الماء وفوق الأرض، والأجهزة كانت تنتشر على المكشوف على قمم صنين، وفي أعالي الضنية وتنورين، ومن المؤسف أن الشبكات غير الشرعية لم يكشف أمرها إلا بناء على شكوى تقدّمت بها شركات إنترنت شرعية ومرخَّصة بحق أخرى مخالفة، رغم كل "العديد والعدة والعتاد" على المكشوف لهذه الشبكات التي تخترق الوطن بمؤسساته العسكرية والمدنية، ورغم أن عدد الشركات المخالفة ليس كبيراً ليكون رصدها عسيراً، سيما أن أجهزة السرقة وبيع المسروق منتشرة على عينك يا تاجر، وصولاً إلى استخدام هذه الشبكات أدوات تجسس للعدو "الإسرائيلي" على أكثر من موقع حساس في الدولة.
من حقنا التساؤل: حكومة ينصرف وزير الصحة فيها للبحث عن مخالفات "غير مطابقة للمواصفات" ضمن المواد الغذائية؛ من اللحمة إلى الطاووق الأبيض والأحمر وسائر الارتكابات بحق الأمن الغذائي، ماذا يفعل وزير الاتصالات فيها؟ بل مَن هو الوزير الفعلي لهذا القطاع، بطرس حرب أم عبد المنعم يوسف؟ ومن هو المسؤول عن زرع الوطن بأجهزة تنصُّت في دولة سائبة؟
منذ نحو أسبوعين، وخلال إطلالته التلفزيونية، تحدّث السيد حسن نصرالله عن الخرق اليومي للطيران "الإسرائيلي"، وتجسسه على يومياتنا، وعلى كافة مقومات أمننا وسيادتنا، وطالب سماحته الدولة بوجوب العمل على وقف هذه الانتهاكات، ليس فقط لسيادتنا الوطنية، بل للأمن القومي اللبناني، فما هو الأخطر على هذا الأمن: طائرة تصوير أم أجهزة تجسس على مؤسساتنا؟
المؤسف هو السجال غير المسؤول بين المسؤولين عند انكشاف الفضيحة، وتطوُّر النقاش بعض الأحيان بين الوزير حرب ومدير عام هيئة "أوجيرو" عبد المنعم يوسف إلى مستوى لا يليق بمسؤولين، وفيما أعلن يوسف وجود شبكة ضخمة مع تمديدات هائلة من الكابلات والألياف الضوئية على الأراضي اللبنانية، اكتشفت في أثناء القيام بكشف أولي، بالإضافة إلى وجود كابل بحري يمتد من نهر الكلب إلى نهر إبراهيم، فوجىء حرب بهذا الأمر وأن يوسف لم يكن قد وضعه بأجواء المعلومات التي بحوزته، كذلك فوجئ المًتابعون والمهتمون بقدرة الشركات المعنية على القيام بتمديدات بهذه التقنيات العالية من دون الحصول على إذن رسمي من الدولة اللبنانية، وازدادت الصدمة بعد تأكيد يوسف أن الشبكات الأرضية والبحرية معزولة عن شبكة الدولة اللبنانية، وليست على طريقة "التعليق" على شبكة الدولة تحت الأرض، كما هي حال شبكة الكهرباء، بل شبكات قائمة بذاتها، وجرى تمديدها فوق الأرض خلافاً لشبكة الدولة.
والمؤسف أيضاً أنه بعد مرور أيام قليلة على انكشاف فضيحة الإنترنت غير الشرعي، تبيّن بالدليل العلمي أن هناك بصمات "إسرائيلية" في هذه الفضيحة، التي استباحت الأمن القومي للدولة اللبنانية وخزينتها على مدى سنوات من التسيب والفوضى، وها هو وزير الاتصالات بطرس حرب خرج ليعلن بصوت مرتفع أننا أمام حادث خطير جداً يمثل تهديداً للأمن الوطني، كاشفاً عن ضلوع شركات "إسرائيلية" في تزويد محطات تهريب الإنترنت باحتياجاتها، بل ذهب حرب إلى أبعد من ذلك، مؤكداً أن هناك مجرمين قرروا أن يبنوا وزارة اتصالات موازية، مستعينين بمعدات "إسرائيلية"، وكما عادة كل وزير لبناني رمى حرب كرة النار في ملعب من سبقوه من وزراء اتصالات، غامزاً بـ"خبث" ناحية وزراء التيار الوطني الحر..وباتت الكارثة القومية المرتبطة بالأمن القومي مماحكات سياسية تافهة بمستوى تفاهة بعض المسؤولين.
وإذا كان مدير عام "أوجيرو" أقوى من وزراء الوصاية على مؤسسته، ويمتلك على الدوام حصانة سياسية ممنوع تجاوزها مهما بلغت تجاوزاته، وإذا كانت لدى يوسف قدرة تجاهُل وزير الاتصالات بطرس حرب،كما تجاهَل من سبقه من وزراء اتصالات، فإن تمرُّد يوسف على وزارة الدفاع المتضررة الأولى من هذه الفضيحة - الكارثة، من خلال رفضه تقديم إيضاحات هي من حق وزارة الدفاع ومخابرات الجيش، يعني أن ملف الإنترنت و"أوجيرو عبد المنعم يوسف" من ضمن الخطوط الحمراء في دولة المحاصصات، ولو على حساب أمن الوطن والانكشاف على العدو "الإسرائيلي".
خلاصة القول، إن القدرة الإستيعابية المحدودة لشبكة الإنترنت الشرعية حالياً كان من المقرر توسيعها عبر مشروع "الفايبر أوبتيك"، الذيمن شأنه أن يحسّن قدرات هذه الشبكة، ولم تستفد منه الدولة بعد، بسبب النكايات السياسية وتصفية الحسابات ونسبة المحاصصات، فإن فضيحة الإنترنت كما ما سبقها من فضائح دولة فاسدة عاجزة عن حماية مواطنيها، بدءاً من سندويش شيش الطاووق، ووصولاً إلى حماية نفسها وسيادتها من كل الانتهاكات، بصرف النظر عن نتائج التحقيقات القضائية التي ستبرّئ المرتكبين الكبار، وينتهي المشغلون الصغار إلى دفع الغرامات، أو إلى محكومية سجن رفعاً للعتب، وإلى شبكات جديدة بأساليب جديدة.