حين اعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انه اعطى اوامره لبدء تنفيذ انسحاب جزئي للقوات الروسية من سوريا، تفاوتت التحليلات والتوقعات حول سر هذا القرار وانعكاساته على النظام السوري والقوات المناوئة له على حد سواء.
اليوم، وبعد 18 يوماً على هذا القرار، اتضح بما لا يقبل الشك ان التواجد الروسي في سوريا تعزز، وبات الحضور الفعلي اكثر من حقيقة لا تخفى على احد. فما الذي حصل فعلياً منذ بدء الانسحاب وحتى اليوم؟
بعد ساعات على اعلان بوتين قرار الانسحاب الجزئي، بدأ عدد من الطائرات الروسية العودة الى موسكو، ولكن قسماً مهماً من الاسطول الجوي الروسي بقي مرابضاً في القواعد على الارض السورية، كما ان عناصر من قوات التدخل الاستراتيجي الروسي بقيت ايضاً على الارض، ناهيك عن قطع بحرية مهمة لم تتحرك من مكانها. اللافت انه وبعد ايام على الانسحاب، سقطت تدمر في يد الجيش السوري في خطوة اعترف الرئيس السوري بشار الاسد انها لم تكن لتتم لولا المساعدة الروسية. هذا الامر يعني عملياً ان روسيا لم تتأثر بسحب بعض القطع الحربية من سوريا، لا بل هي ارضت "شكلياً" دولاً عدة اشادت بسرعة تنفيذ قرار الانسحاب، فيما يشير الواقع الى حضور روسي اساسي على كل الجبهات.
ووفق تقارير غربية اعلامية وغير اعلامية، فإن "المد" الروسي لسوريا بالسلاح عبر البحر، تطور بشكل لافت، بل زادت نسبته وهو يتضمن بطبيعة الحال اسلحة متطورة ستوضع في تصرف القوات النظامية ومن يؤيدها. والدهاء السياسي يكمن في ان موسكو تنقل هذه الاسلحة بحرية تامة ودون معارضة من احد، حتى ان واشنطن ودولاً اخرى ابدت ترحيبها بما يحصل، كونه يأتي ضمن سياق "تعاون" مشترك من اجل القضاء على "داعش"، اي ان روسيا حصلت على "براءة ذمة" دولية من اجل ايصال كل انواع الاسلحة الى سوريا، وهو امر بالغ الاهمية بالنسبة الى الدبلوماسية الروسية التي كانت تتعرض منذ بداية تدخلها في سوريا الى اشرس الحملات والانتقادات.
ولم تأخذ موسكو وقتاً طويلاً للتصرف براحة كبيرة وكأنها في "منزلها"، فأرسلت على جناح السرعة قوات مختصة وروبوتات لتنظيف تدمر من الالغام ما عكس حقيقة ان الخط المباشر بين روسيا وسوريا ناشط وفاعل ولا عوائق تعترضه.
حضور روسي من نوع آخر اعطاه الاسد صفة رسمية، وهو الحضور الاقتصادي والمالي من خلال تأكيده في مقابلة صحافية ان روسيا والصين وايران يتمتعون بأفضلية في تلزيم شركاتهم اعادة بناء سوريا، مع كل ما يعنيه ذلك من مكاسب مالية وتعزيز للتواجد الروسي في هذا البلد العربي الذي سيكون محطة رئيسية في حضور احفاد "الاتحاد السوفياتي" في الشرق الاوسط بشكل عام.
اعطى الاعلان عن انسحاب جزئي من سوريا مكاسب سياسية لا تحصى للروس، ولكن الاهم انه ابقاهم فعلياً في سوريا، وعزز تواجدهم هناك، وسمح لهم بحرية التنقل والانتقال في هذا البلد دون رقابة او مراقبة من احد، بشهادة اميركية في المقام الاول.
وبغض النظر عن مصير الاسد في المفاوضات والتسوية المنتظرة، من المؤكد ان الروس سيبقون في سوريا لفترة غير قصيرة، وعلى الدول المجاورة ان تعتاد على هذا الوجود بصفته "شرعياً وضرورياً" ولكنه ليس موقتاً بطبيعة الحال، بل قد يكتسب ميزة "الدائم" وهو حدث كان متوقعاً منذ اليوم الاول الذي دخلت فيه القوات الروسية الى الاراضي السورية.
مرحلة جديدة بدأها الروس منذ اعلان انسحابهم الجزئي من سوريا، وهي تنبئ بأوقات طويلة لهم في ربوع الشرق الاوسط، حيث سيتدخلون في كل شاردة وواردة ولن يوفروا دخولهم على الخط عند الحاجة في اي موضوع "دون استئذان" من احد، في اول صورة واضحة عما سيكون عليه الشرق الاوسط الجديد.