منذ بدء الخليقة اراد الله بعمق حكمته ان يحيا الانسان بتناغم مطلق معه، مع ذاته ومع الآخر، فرتّب له كل ما هو صالح وحسن لكي يكون سعيداً، لكن الانسان، رغبة باقتناء حريته، مشى بعكس مخطط الله، فخسر نفسه والله معاً. ولأن الله هو اب كلي الرحمة والمحبة، لم يشأ لمخلوقه المحبوب ان يبقى بعيداً عنه.
فأخذ يفتش عنه مستعملاً كل السبل والطرق، أملاً بعودته الى البيت الوالدي الذي اعد لأجله، فأرسل المراسيل وأقام الوساطات من انبياء ومبشرين ومرسلين، ولكنّ الانسان بعنفوانه، اراد قلب الموازين رغبة بالتأله بمعزل عن الله، فنأى بنفسه عن المبادرات الالهية متصلباً ومتعنتاً، فاغترب عن ذاته، عن حقيقته الوجودية كابن لله وعن علاقته بأخيه الانسان، تائهاً ومبتعدا اكثر فأكثر عن هدفه، وسائراً في دياجير ظلمة البعد عن الخالق. ولكن الله بقلبه الأبوي، أنّى له ان ييأس من إعادة الانسان الى بيته، ملكه، فسارع يبحث عنه رغبة باتمام مشروعه الخلاصي، مشروع الشركة في سعادته اللامتناهية. وهنا يقول اللاهوتي الكاثوليكي هانس اورس فون بالتسار: ان الله-بالمعنى التاريخي هو في حاجة الى الانسان، وهذه الحاجة لا لنقص فيه بل لملء محبة. ليتم مخططه الخلاصي، ويكتمل حتى النهاية باتحاد الانسان بالله. فلم يجد في النهاية الا ان يرسل ابنه الوحيد. فهيّأ كل الظروف لاستقبال الابن، وبالرغم من ذلك ظل الانسان معانداً للعودة، اتى الإبن فشفى المرضى وأقام الموتى، كثّر الخبز وسكّن العاصفة، طرد الشياطين واحب الجميع. والنتيجة كانت تعنتاً وتصلّباً أكثر، أهواء مزاجية، اليوم معك وغداً عليك، اليوم هوشعنا وبعد ايام اصلبه، حتى وصلت الحالة بالابن الى ان ارتفع على الصليب فاتحاً يديه للأبد ليقول لهذا الانسان احبك، وسأظل احبك ويداي مفتوحتان لضمّك وليعودا بك الى حضن الآب. فقد كان السيد يعي جيداً -عندما قال لتلاميذه– "اذهب وأعود اليكم" انه في ذهابه يكمن المجيء والعودة. فذهابه يولجنا بنوع جديد وعظيم من الحضور، لان حبة الحنطة ان لم تمت في الارض، فلا يمكنها ان تأتي بثمر. وهنا تكمن عظمة حبه، مات لانه يحبنا وكان يدرك ان الحب لا يمكنه ان يموت، على حد قول قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر في عظته الفصحية للعام الماضي. ومع حدث الصلب الكبير الذي معه تشققت الصخور وانفتحت القبور وتزلزلت الارض وحجبت الشمس. حينها رأى الإنسان ان هذا بالفعل هو ابن الله، وعلى الرغم من ذلك ظلت فكرة التمرد مطبوعة في داخله، فاغترب عن ذاته وابتعد عن أخيه حتى صار يشبه وريقات اشجار الخريف التي تسقطها النسمات، وتحملها من مكان وتقذفها في آخر.
أما القيامة فأتت حاملة الانسان الى الله، مرسخة وجوده الارضي ورافعة عينيه عالياً نحو السماء، رجع الى ذاته وعرف ان لا حياة له الا مع اخيه الانسان، ولا طريق الى الآب الا بمحبة القريب. وصار مفاخراً بأنه ابن لله وأخ للمسيح يسوع. ففي شركة المسيح قد تخطى الانسان المسافات، وغدا في وحدة مع الرب. "اما الآن ففي المسيح يسوع، انتم الذين كانوا بالامس أباعد، قد جعلتم اقارب بدم المسيح (اف 2/13)، وهذا ما قاله السيد للمجدلية بعد قيامته "اذهبي الى اخوتي وقولي لهم: إني ذاهب الى ابي وابيكم، الهي والهكم" (يو 7 ب – 8 أ). وهنا تجلت اسمى معاني القيامة، نعم صرنا أولاداً لله وإخوة للمسيح يسوع، وهذه الكرامة وهبنا اياها مجاناً ابن الله الوحيد. هذا هو سر القيامة فمعها كسر السيد المسيح حاجز العداوة بعمق محبته فأعاد الانسان منسجماً مع الطبيعة، مع ذاته ومع أخيه الانسان. ودعاه من جديد لتخطي كل العوائق والصعاب. للسير قدماً نحو الوطن العلوي، بنعمة وقوة من بموته غلب الموت وبقيامته قلب التاريخ.
تعالوا نغوص في سر الفصح، طارحين اليأس عنا، وغير مستسلمين لحاضر يفتقر للعدالة والسلام ويتسم بالألم والوجع، بل مستشرقين نور الرجاء والمحبة بالروح القدس الذي وهبناه، عارفين ومدركين ومؤمنين أننا اذا متنا معه فلا بد ان نقوم معه، وصارخين مع الرسول بولس "اين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا جحيم؟" (1 كور5/55)
* كاهن مقام سيدة زحلة والبقاع