تتقلص طموحات القوى الاقليمية طوعا مضطرة لاعادة التقولب ضمن الاجندة السياسة الروسية-الاميركية، في شبه اقرار من الاطراف المؤثرة بالحرب السورية ولو بدرجة متفاوتة بضرورة الانخراط في حل يكسر جليد ازمة غير قابلة للانتهاء اقله في المدى المنظور.
لوهلة ما اقتربت المنطقة من الانفجار اكثر، مهددة بحرب اقليمية اوسع لا طاقة ولا رغبة للقوى فيها، ما دفع الجميع الى اعادة النظر في خيارات تجنب المواجهة المباشرة للتحول الى تفاوض سري وعلني في جولات لا تنتهي بين عواصم القرار المؤثرة، لا سيما بين واشنطن وموسكو المدركتين تمامًا لتعقيدات الازمة وعدم تغافلهما عن محورية القوى الاقليمية كتركيا والسعودية وايران.
الانتظام الاهم والانعطافة المفصلية في الحرب لم تكن في قرار التدخل الروسي بداية تشرين الاول الماضي ولو على اهميته، بل ما استتبع من خطوات مهدت لفسحة انفراج نحو حل سياسي جدي، وبموازاة معارك هي الاهم منذ بداية الحرب من المنظور الروسي وحلفائه الاقليميين وتحديدًا في حلب واللاذقية لم تهدأ المشاورات بين رئيسي الولايات المتحدة باراك اوباما وروسيا فلاديمير بوتين ووزيري خارجيتيهما، مهندسي القرارات الدولية وجنيف السورية جون كيري وسيرغي لافروف.
حدود التسوية وخطوطها العريضة التي رسمها اوباما وبوتين لا تزال تستثمر حتى الان ايجابا على الساحة السورية، فالثاني اجاد توقيت قطاف الشراكة المحدودة مع الأوّل في اكثر من مفصل ميداني، برز هذا جليا في حلب ومعارك ريفها الاستراتيجية، فبحسابات دقيقة وسباق مع الوقت مرر بوتين جرعة تهدئة ووعود للطرف الاميركي الذي فوجئ بقرارات بوتين سابقا في اكثر من ملف وازمة منها الازمة الاوكرانية وجزيرة القرم، كذلك تمكن حلفاء موسكو من تكييف اهدافهم مع اجندة الرئيس الروسي الّذي استثمر خلال اشهر معدودة ما عجز عن استثماره اخرون خلال سنوات، فكان اختيار توقيت التدخل والانسحاب الجزئي من سوريا ضربتين ناجحتين، مُوقفا بخطواته تدحرج الامور الى حرب اكبر في خضمّ اشتعال التهديدات من انقرة والرياض وصلت الى حدود التجهيز لدخول الحرب مباشرة لا بالوساطة، فكانت الهدنة ضرورة لوقف الانفجار بعد المعارك على الارض ما دفع بالجميع الى الموافقة عليها على مضض، وبعد تهالك الاطراف جميعا من الاعباء والتكاليف، فسجلت تهدئة اعلامية سعودية وشبه انكفاء تركي الى ما بعد الحدود وغابت تهديدات التدخل العسكري في الشمال السوري، ولعل استمرار تساقط قذائف المدفعية التركية من خارج الحدود خير دليل على خطوط حمراء رسمها بوتين لنظيره التركي رجب طيب اردوغان.
وحدة التراب السوري ليست ببعيدة ايضا عن مسار الاحداث الحالية فتركيا تناست كما يبدو المنطقة الآمنة، وتلاشت احلامها لا سيّما بعد دعوة رئيس وزرائها احمد داوود اوغلو للحفاظ على وحدة الاراضي السورية لأن عصا الانفصال الكردي لا تغيب عنه و لا عن الرئيس التركي رجب طيّب اردوغان.
ولكن الاقرار الاميركي بالدور الروسي لا يعني ترك القرار بيد موسكو حصرا ولا يعني التسليم الاميركي به لجهة ما تصمم عليه او تهدف اليه في سوريا، على رغم الانجرار الاميركي الى التوجهات الروسية ورؤية بوتين للحل، وفي حين وصف البيت الابيض تحرير تدمر من داعش بجهد طائرات السوخوي بالأمر الجيد، فان واشنطن ترفض التنسيق حول تحرير الرقة رغم ابداء روسيا الرغبة في التعاون مع الطرف لاميركي لتحريرها، فالخلاف هو على القوى التي ستشارك في معارك الرقة وليس على ضرب "داعش" كما يبدو ذلك.
الانفراج بين الطرفين الروسي-الاميركي ليس كاملا فاستثمار الدفع الميداني في الحصاد السياسي يترجم فقط في منع انهيار محادثات جنيف، ونظرا لتعقيدات المرحلة فالهدنة صامدة والمساعدات الإنسانية تصل الى بعض الأماكن المحاصرة، ولا ننسى فرز المعارضات بين ارهابية ومعتدلة بعد تأكيد كل من موسكو وواشطن على تصفية "داعش" و"النصرة" في حين يبقى الخلاف على تصنيف التنظيمات الاخرى وتحديدا من هي القابلة للانخراط في المسار السياسي.
انقاذ العملية السياسية توجت بلقاءات كيري مع لافروف وبوتين في موسكو وسط حديث عن توجه نحو فصل النجاحات الميدانية ضد التنظيمات الارهابية عن مسار جنيف والمفاوضات السياسية بين المعارضة والحكومة السورية، والاحداث المرتقبة في الاشهر المقبلة هي الحد الفاصل لتحديد ملامح المرحلة الانتقالية بعد الخلاف على تفسير "الانتقال السياسي" بين حكومة موسعة وهيئة حكم انتقالي تصل بصلاحياتها الى الرئاسة.
وحتى اتضاح الصورة الميدانية اكثر على الارض وفرز القوى الصالحة للانخراط في العملية السياسية يبقى الحل السياسي بعيدا، ويحكى في هذا الاطار عن امكانية فصل تركيبة النظام عن دور ومصير الرئيس السوري بشار الاسد، خصوصا بعد طرح الاخير لانتخابات مبكرة والمشاركة في حكومة موسعة مع المعارضة.
طرح رفضه البيت الابيض في حين يعوّل بوتين على اوباما قبل انتهاء ولايته مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الاميركية.