من قضيّة إستبدال موظّفين مسيحيّين بآخرين مُسلمين في ​وزارة المالية(1)، مُرورًا بقضيّة ‏إستبدال الموظف المسيحي في النافعة ​بشارة جبران​ وتعيين الموظف ​محمود بركات​ مكانه(2)، ‏وُصولاً إلى قضيّة الخلاف بين رئيس جهاز أمن الدولة اللواء جورع قرعة ونائبه العميد محمد ‏الطفيلي(3)... مشاكل مُختلفة أخذت حيّزًا كبيرًا من الإهتمام الإعلامي، مع تسجيل إتهام العديد ‏من الأحزاب والقوى المسيحيّة لفرقاء أساسيّين في البلاد بضرب حقوق المسيحيّين عرض الحائط، ‏الأمر الذي جُوبه في المُقابل باتهامات بحقّ هذه الأحزاب والقوى المسيحيّية باللعب على الوترين ‏الطائفي والمذهبي! فما الذي يحصل، ومن هو على حقّ، وهل فعلاً إستنبش المسيحيّون اللغّة ‏الطائفية المُفترض أن تكون قد طويت إلى غير رجعة؟

في موضوع أمن الدولة، كان يُمكن أن يكون الحلّ بسيطًا وسريعًا، باعتبار أنّ العميد ​محمد الطفيلي​ ‏سيبلغ في الأسابيع القليلة المُقبلة مرحلة الإحالة على التقاعد، وبالتالي لا ضير في دخوله في إجازة ‏مسبقة ومدفوعة وتُحلّ الأزمة، إذا كانت المسألة مرتبطة بعدم إنسجام بين شخصين، فضلاً عن ‏القدرة على اللجوء إلى تعديل القانون الداخلي لجهاز أمن الدولة، بحيث لا تتساوى ولا تتداخل ‏سُلطات الرئيس مع سُلطات نائبه، إذا كانت المسألة مرتبطة بنصّ غير واضح. لكنّ ما حصل أنّ ‏البعض طرح الإستغناء عن خدمات كل من اللواء قرعة والعميد الطفيلي لحلّ الأزمة، علمًا أنّ ‏الثاني سيبلغ قريبًا جدًا مرحلة التقاعد، بينما الأوّل باق في منصبه لسنة وأشهر عدّة! ‏

في موضوع اللغط القائم في أكثر من وزارة، بالنسبة إلى إستبدال موظّفين مسيحيّين بآخرين ‏مُسلمين، فإنّ المسألة ما كانت لتأخذ هذا المنحى الإعتراضي بنبرة طائفيّة ومذهبيّة، لو كانت كل ‏هذه التعيينات والتشكيلات والمُناقلات تتمّ بشكل مفهوم وظيفيًا ولأسباب مُبرّرة ومُقنعة، وليست ‏إعتباطيّة ومزاجيّة وحتى لمنافع خاصة، أكانت حزبيّة أم مناطقيّة أم عائليّة! ‏

وقد أخذ المنحى الاعتراضي المسيحي هذا الحجم أيضاً لأنّ المسيحيين شعروا أنّهم مُستهدفون ‏بحقوقهم، بقوّة السلاح وغياب الأمن والأمان هنا، وبذريعة الأكثريّة العدديّة هناك، وبحجّة الإبتعاد ‏عن اللغة الطائفيّة ونبذها هنالك. فالتغيير الديمغرافي السريع أشعر مسيحيّي الأطراف ومناطق ‏التهجير السابق بعدم الأمان، وتبدّل الأجواء والعادات في كثير من المناطق دفع المسيحيّين إلى ‏إخلاء مناطق عدّة كانوا يُشكّلون أغلبيّة عدديّة فيها، في مقابل توسّع المساحات الجغرافية التي ‏ينتشر فيها مُسلمو لبنان بقوّة الأموال التي تُوظّف لشراء أملاك وأراضي المسيحيّين بعد تمهيد ‏الطريق لذلك عبر إشعارهم بأنّهم أصبحوا غرباء عنها. ‏

ومن يلوم المسيحيّين على إثارة ضجّة كبيرة بمنحى طائفي، بسبب إستبدال موظّف، ينسى أو ‏يتناسى أنّ رأي الأغلبيّة المسيحيّة بالملفّ الرئاسي مرفوض، وأنّ أسماء المُرشّحين تُطرح من قبل ‏شخصيّات غير مسيحيّة، مثل رئيس "تيار المُستقبل" ​سعد الحريري​ الذي يتولّى التسويق للنائب ‏سليمان فرنجيّة، ورئيس "الحزب التقدمي الإشتراكي" ​وليد جنبلاط​ الذي كان أعلن ترشيح النائب ‏​هنري حلو​ لقطع الطريق على الترشيحات المسيحيّة. والتناسي يشمل تجاهل قضيّة التجديد ‏للمجلس النيابي لمرّتين مُتتاليتين، وإستمرار عرقلة مساعي التوصّل إلى قانون جديد مُنصف، ولا ‏يكون فيه صوت الناخب المُسلم طاغيًا على صوت الناخب المسيحي في عشرات الدوائر ‏الإنتخابيّة. والتناسي يشمل غياب كلمة الأحزاب والشخصيّات المسيحيّة الفاعلة في تسمية قائد ‏​الجيش اللبناني​، وعرقلة أي مسعى لمُعالجة هذه الثغرة، في مُقابل تدخّل الأحزاب والشخصيّات ‏المُسلمة في تسمية أصغر الضبّاط! والتناسي يشمل أيضًا إستبدال رئيس جهاز ​الأمن العام​ الذي ‏كان عُرفًا من نصيب الطائفة المسيحيّة، وصار منذ مدّة من نصيب الطائفة الشيعيّة. والتناسي ‏يشمل كذلك عدم الإنصاف في المشاريع الإنمائيّة بشكل مُتوازن بين المناطق، ولعلّ المُماطلة ‏المُستمرّة في توسيع الطرقات الرئيسة في المتن الشمالي وفي كسروان، في مقابل تأمين ملايين ‏الدولارات لتوسيع العديد من الطرقات في الجنوب والبقاع والشمال، هي خير مثال على هذا ‏التمييّز، على الرغم من أنّ كل الإحصاءات الرسميّة تؤكّد أنّ المناطق ذات الأغلبيّة السُكانية ‏المسيحيّة تأتي في طليعة المناطق التي تُسدّد الفواتير لقطاعات الدولة المُختلفة في مقابل تهرّب ‏الكثير من المناطق الأخرى من ذلك، ولو بنسب مُتفاوتة. ومن بين الأمثلة أيضًا وأيضًا، مسألة ‏الخلل الحاصل في التعاقد الوظيفي لصالح المُسلمين على حساب المسيحيّين، علمًا أنّ رمي بعض ‏الأرقام التي تظهر نوعًا من المساواة بين الطائفتين، يعود إلى الموظّفين المُثبتين في ملاك الدولة، ‏وليس إلى المُتعاقدين والمُتعاملين الذين جرى توظيفهم منذ إنتهاء الحرب حتى اليوم عبر عقود ‏قابلة للفسخ. ‏

في الختام، يُمكن القول إنّه بعيدًا عن الأشعار والنظريّات المبدئيّة التي يتغنّى بها بعض المسؤولين ‏في لبنان عن الوحدة وعن البُعد عن الطائفيّة وعن التقوقع المذهبي، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ أحدًا ‏من المسؤولين لا يُطبق هذا الترفّع عن الطائفية والمذهبيّة الضيّقة في ممارساته الميدانية، بل عبر ‏وسائل الإعلام فقط. وبعد عقدين ونصف من السُبات، قرّر المسؤولون المسيحيّون رفع الصوت ‏الطائفي والمذهبي، مثلهم مثل غيرهم في هذا الوطن، لأنّ القصّة ليست قصّة موظّف مسيحي هنا ‏أو هناك، بل قصّة قلوب طائفة بكاملها "مليانة" من التجاوزات المُستمرّة والمتمادية بحقّها، من ‏الموظّفين العاديّين، مرورًا بالشخصيّات في مراكز المسؤوليّة على إختلافها، وُصولاً إلى منصب ‏رئاسة الجمهوريّة. ولمن لم يستوعب بعد ما يحصل، لا بُدّ من تذكيره أنّ القرار إتخذ لدى كل من ‏‏"التيار الوطني الحُرّ" وحزب "القوّات اللبنانيّة" وغيرهما أيضًا، بأن لا تفريط بحقوق المسيحيّين ‏بعد اليوم، ولا تنازلات من طرف واحد بعد اليوم... مهما كلّف الأمر وأيًّا تكن النتيجة!‏

(1)نفى وزير المال ​علي حسن خليل​ هذا الأمر، واصفًا ما حدث بتشكيلات تحصل دَوريًا، وعدّد ‏بالأرقام التوزيع الطائفي والمذهبي في هيكليّة الوزارة.‏

(2)تمّ نقل محمود بركات من نافعة-الأوزاعي إلى نافعة-الدكوانة من دون فهم الخلفيّات الوظيفيّة ‏لهذه الخطوة، في ظلّ حديث عن وساطة وزاريّة قضت بذلك. ‏

(3)تسبّب الخلاف على السُلطات بين المسؤولين العسكريّين المذكورين نتيجة ثغرات في النظام ‏الداخلي، إلى شلّ عمل جهاز أمن الدولة، وإلى قطع التمويل اللازم له من قبل السلطة السياسيّة. ‏