كما تصاعدت حدّة المواجهة بين أرمينيا وأذربيجان في إقليم ناغورني قره باغ المتنازع عليه بين الدولتين، تم التراجع عن التصعيد والاتفاق على وقف لإطلاق النار سيكون هشًّا، ولكنه على الارجح لن يصل الى تصعيد جديد بالحجم الذي رأيناه.
ولا شك ان تطور الاحداث وحدّة المواجهة الاعنف منذ العام 1994، لم تأتِ من فراغ ولا انتهت ايضاً من فراغ، وعليه، يجب البحث عما هو ابعد من الحدث بذاته، اي عن الاسباب.
ليس سراً ان الأذريين والأرمينيين يفتقدون الى الكيمياء التي تجمعهم، ولا حاجة لهم للكثير من المعطيات ليختاروا المواجهة عوضاً عن الحوار والاتفاق، ولكن روسيا كانت دائماً بمثابة الظلّ الذي يعيش تحته البلدان، فهي على وفاق تام وتنسج علاقات صداقة معهما رغم انها تملك قاعدة في أرمينيا، دون ان تنسى أن اذربيجان تبقى ميولها غربية اكثر منها روسيّة.
اندلاع المواجهة اعتبره الكثيرون بمثابة "استفزاز" لروسيا ومن خلفها ايران، فالأولى تتشارك بحدود مع أذربيجان، فيما الثانية تُعتبر الأقرب على خط توتر إقليم ناغورني-قره باغ. ولن يفوّت الغرب أي فرصة يراها مناسبة لـ"تشتيت انتباه" روسيا عن منطقة الشرق الأوسط او على الأقل الهائها بمشاكل جانبية تمنعها من المحاربة على جبهة واحدة.
ليس الهدف من التصعيد العسكري في ناغورني-قره باغ الوصول الى حرب، لأن من شأن ذلك جرّ بُلْدان المنطقة الى نزاع لا يعرف احد كيف سينتهي، لان القاء الدول المجاورة بثقلها في الميدان سيعني اندلاع حرب عالمية، على غرار ما تم التحذير منه في سوريا. من هنا، بدا الحرص الأذري على عدم استخدام الامكانات العسكرية الكبيرة التي تملكها وخصوصاً لناحية التفوّق الجوي، فيما حرصت أرمينيا على عدم توسيع رقعة الاشتباكات واوصلت رسالة قويّة ان التفوق الجوي المقابل يمكن تعويضه بسلاح ارض-جو رادع. اما النقطة الأهمّ في الرغبة بعدم تدهور الامور، فكان اكتفاء أرمينيا بالتلويح باعتراف من جانب واحد بجمهورية قره باغ اذا ما خرجت الاوضاع عن السيطرة، دون القيام بهذه الخطوة عملياً لانها تعني الوصول الى نقطة اللاعودة(1).
وفي الواقع، لا يمكن لاحد ان يتدخل في الموضوع من اجل التهدئة اكثر من روسيا، نظرا ًالى صلاتها بالبلدين من جهة، والى ما تمثله من قوة عظمى في مجلس الامن من جهة ثانية.
ولم تأخذ روسيا التهديد التركي بالتدخل العسكري على محمل الجد، وهي شاركت في "مجموعة مينسك" (التي تضمها وتركيا الى جانب الولايات المتحدة وفرنسا وبيلاروسيا وفنلندا والمانيا وايطاليا والسويد) لقطع الطريق على اي تهويل تركي في هذا السياق، والذي جدد الثقة بروسيا وفرنسا واميركا للتوسط وحث الطرفين على الجلوس الى طاولة المفاوضات.
في غضون ذلك، نجحت روسيا في ضبط الايقاع العسكري، ويمكن القول ان التهدئة تصب ايضاً في مصلحة الغرب لان الروس لن يقفوا متفرجين في حال تدهورت الاوضاع، كما لن يقبلوا بتواجد قوات فصل او مراقبة من غير الجنود الروس، لانهم سيعتبرون ذلك بمثابة تهديد لاستقرارهم وامنهم اذا باتت القوات الدولية او الاميركية في دول على حدودها. وغني عن القول ان الغرب لن يقبل بتواجد قوات روسية في قره باغ تحت اي ذريعة، ما يعني ان الاوضاع ستبقى على حالها الى ان تستجد معطيات سياسية وجغرافية وعسكرية تتكفل برسم واقع جديد يسمح بادخال النزاع حول هذا الاقليم الى فجر جديد ينهي صراعاً استمر منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وربما يسمح بنشوء دولة جديدة يعترف بها العالم رغم انها ستكون مهددة من جيرانها التي تتشارك احدود معهم كونهم اكثر قوة وتأثيراً.
(1) بتاريخ 4/4/2016، قال الرئيس الأرميني سيرغي سركيسيان إن بلاده ستعترف باستقلال إقليم ناغورني قره باغ عن أذربيجان، إذا اتسع نطاق العمليات العسكرية هناك.