استشعر معسكر العدوان على سورية خطر الخسارة التي أحاقت به على المسرح السوري، فاتجه إلى مناورات في السياسة والميدان عول عليها لتكون مخرجا له من الخسارة أو على الأقل لتكون له جسرا يعبره فيحدد خسارته،
وجاءت مناوراته هذه في أبواب ثلاثة، سياسة، وسلوكية، وأخيرا ميدانية قامت بها الجماعات المسلحة التي صنف بعضها إرهابيا وبقي بعضها الأخر خارج التصنيف بالمعيار الأميركي الملتبس .لكن سورية ومعها معسكر الدفاع لم تخضع للابتزاز والمناورات، وردت على كل تصرف بما يناسبه حتى تجهض مفاعيله فكيف كان ذلك وما هي النتائج ؟
أولا: على صعيد تصرف دي ميستورا المبعوث الأممي إلى سورية يسجل امران: الأول إصراره على تعيين موعد الجولة المقبلة للحوار السوري السوري في التاريخ ذاته الذي حددته سورية لإجراء الانتخابات النيابية في 13 نيسان الجاري رغم أن الوفد السوري اشعر دي ميستورا مسبقا بهذا التاريخ وتمنى عليه أن يعين الموعد بعده، لكن دي ميستورا وبسلوك كيدي أصر على تلازم موعد الجولة مع موعد الانتخابات من اجل احراج سورية ودفعها إلى رفض المشاركة فيحملها مسؤولية التعطيل.
أما الأخطر في سلوك دي ميستورا فهو الخلفية التي حكمت صياغة ورقته التي سلمها للوفود المشاركة في المباحثات لتكون أساسا للنقاش، وهي ورقة وبالشكل التي صيغت فيه تخفي إرادة غربية للالتفاف على صمود سورية وانتصارها في حرب الدفاع عن الذات والمواقع والحقوق، فالتمعن في الورقة يفضي إلى تسجيل ملاحظات أخطرها ما يلي:
1) النظر إلى سورية المستقبل كما لو أنها دولة منزوعة السلاح لا يجوز لها اللجوء إلى القوة حتى في الدفاع عن نفسها أو عن حقوقها سواء منها ما اغتصب كالجولان المحتل إسرائيليا أو ما يمكن أن يغتصب ويهدد ترابها الوطني ووحدته. فقد أصر دي ميستورا على إلزام سورية في سياستها وسلوكها بدور سلمي دونما تمييز في المواقف، حتى انه ترك امر تحرير الجولان للسياسة دون أي تهديد بالعمل العسكري بما في ذلك المقاومة التي هي حق للشعوب بموجب القانون الدولي العام وميثاق الأمم المتحدة. وهي الخدمة الأولى لإسرائيل (ونسأل لماذا زج الجولان هنا أصلا)؟
2) النظر إلى سورية كما لو أنها تجمع مؤقت من أعراق وأديان وطوائف وفئات اثنية شتى لم تستطع أن تنصهر لإقامة الشعب الواحد في الدولة الواحدة، وبعد ذلك الحرص على الكيانات الذاتية لتلك المكونات وتعزيزها بما يحول دون بلورة فكرة الوحدة الوطنية بينها. وبهذا يكون دي ميستورا قد استقدم النموذج اللبناني التعطيلي أو النموذج العراقي التقسيمي الذي جاء به المحتل الأميركي ليمنع بناء الدولة الوطنية القوية بوحدتها واستقلالها وسيادتها ويسدي مرة ثانية خدمة لإسرائيل.
3) اللبس في النظرة إلى الإرهاب والمجموعات الإرهابية وهنا مكمن خطر أخر إذ وفي ظل امتناع أميركا عن الالتزام بمعايير موضوعية لتحديد الإرهاب وفي ظل المزاجية الأميركية في التصنيف مزاجية جعلت المقاومة إرهابا والإرهاب الحقيقي معارضة مسلحة، ثم تكليف سورية المستقبل بمحاربة الإرهاب مع حفظ المواقع في سلطتها لعملاء أميركا، فان الخطر هنا يلوح من باب المواجهة بين سورية ومنظومات المقاومة ضد إسرائيل، وبالتالي فان دي ميستورا في ورقته يكون قد تجاوز مسالة خروج أي سلاح غير رسمي من سورية ووقف دعم واحتضان سورية لحركات المقاومة ووصل إلى حد جعل سورية في الخندق المعاكس ودفعها إلى الالتزام بقتال المقاومة دفاعا عن إسرائيل .
4) إظهار حرص مصطنع على دور المرأة في الحياة السياسية السورية وكأن سورية الحاضر تتنكر لهذا الدور كما هو حال السعودية مثلا. وإنني أرى في النص هنا خبثا وكيدية وإساءة للنظام السياسي السوري القائم منذ 46 سنة على أساس المساواة بين المرأة والرجل في كافة الحقول حيث نجد المرأة تضطلع بكل الوظائف في السياسة والإدارة والقضاء والقوات المسلحة.
5) أما عن الحكومة المستقبلية والانتقال السياسي وغيرها من العبارات التي تضمنتها الورقة بالتأكيد شبه الحصري على بيان جنيف 1 فلن نقول ألا أن دي ميستورا كما يبدو قد توقف الزمن لديه عند جنيف 1 كما تريد أميركا واتباعها ولم يستطع تفهم ومواكبة ما حصل في فيينا وبعدها وصولا إلى القرار 2254 الذي على أساسه نظمت هذه المباحثات.
ثانيا: على صعيد الوفد الجزئي لما يسمى المعارضة السورية المشاركة في جنيف. إذ رغم أن دي ميستورا لم ينفذ ما الزم به في القرار 2254 بان تكون المباحثات سورية سورية شاملة وتشارك فيها الفئات السورية المعارضة السورية بأوسع مشاركة فانه اصر على الرضوخ لإملاءات من مكونات معسكر العدوان على سورية واستبعد شرائح واسعة يمكن وصفهم بالمعارضة في الوقت الذي ضم الوفد المعين من قبل «تجمع الرياض المعارض» إرهابيين، وبهذا جاء التمثيل جزئيا منحرفا عن مضمون القرار 2254، وحتى يفاقم سوء المشهد يصر هذا الوفد على مطالب تعجيزية أيضا يضعها شرطا للبدء الفعلي بالمباحثات من قبيل التمسك بالحكم الانتقالي واستلام السلطة والقفز فوق الدستور القائم وهيئات الحكم التي تدير البلاد حاضرا بشكل شرعي يستند إلى انتخابات شعبية نظمت وفقا لهذه الدستور والأنظمة والقوانين النفاذة .
ثالثا: على صعيد الميدان والمواجهات العسكرية. وهنا نجد أن معسكر العدوان على سورية لعب ورقته الأبشع والأخطر بانتهاك قرار وقف العمليات العسكرية ثم استعمال الأسلحة الكيماوية وزج أسلحة نوعية في الميدان بشكل استفزازي توخى فن استدراج سورية لرد يسقط قرار وقف العمليات ويستتبع وقف العمل على المسار السياسي فيتهرب معسكر العدوان من مستحقات هذا المسار وتحمل سورية المسؤولية عن ذلك. وفي هذا السياق يقرأ الهجوم الواسع الذي شنته المجموعات المسلحة على مراكز الجيش العربي السوري في كل من ريف حلب الغربي والجنوبي ودخولها إلى بلدة العيس وتلتها ومحاولة اقتحام المراكز والمطار في كل من دير الزور والضمير ولجوء المجموعات المسلحة إلى استعمال غاز الخردل والكلور واسقاط الطائرة الحربية السورية بصاروخ ارض جو في الشمال السوري. حدث كل ذلك ولم تسجل ردة فعل واحدة مستنكرة من أي من مكونات معسكر العدوان على سورية في سلوك يؤكد بان العمليات تلك ليست تصرفا ظرفيا موضعيا عارضا بل هي أفعال تندرج في سياق خطة هدف منها وضع سورية أمام خيارين: اما القبول بالأمر الواقع وابتلاع الخسائر وهنا تبدو ضعيفة فيصرف ضعفها لصالحهم في المباحثات، أو ترد بقوة يستجوبها الموقف فينهار وقف العمليات العسكرية وتتعطل جولة جنيف على مسؤولية سورية, في مواجهة هذه المكائد التي حيكت بخبث وخداع مؤكد، التزمت سورية ومعسكر الدفاع عنها سلوكا وسطا يتسم بالحزم في الرد الميداني والمرونة في العمل السياسي للمحافظة على المواقع والمكتسبات واحترام دستورها والقرارات المنبثقة عنه وبهذا السلوك المركب كان ما يلي:
1) المضي قدما باجراء الانتخابات النيابية وفي تاريخها المحدد، مع الاستجابة لدعوة دي ميستورا إلى جولة المباحثات في جنيف ولكن في اليوم التالي للانتخابات فتكون سورية جمعت الأمرين معا وعطلت فخا نصب لها.
2) الامتناع عن التعليق عن أي حرف أو معنى ورد في ورقة دي ميستورا والتزام الصمت المطبق حيالها وترك الأمر للمباحثات في جنيف حيث سيسمع دي ميستورا ما يؤكد على أن سورية التي قاتلت 5 سنوات دفاعا عن وحدتها وشعبها الواحد وقرارها المستقل وحقها بان تستمر دولة حقيقية لها ما لدول العالم من حقوق لن تتخلى عن أي شيء من ذلك ولن تعطي على طاولة التفاوض ما عجز المعتدون عن انتزاعه في الميدان، كما أنها لن تتنازل عن أي شيء رفضت التنازل عنه خلال تاريخها خاصة منذ العام 2003.
3) أما في الميدان فقد شكل الرد العسكري المصحوب ببيان القيادة الميدانية في منطقة حلب ردا حاسما على انتهاك الجماعات المسلحة لوقف العمليات العسكرية، رد تضمن امرين الأول يتعلق بالانتهاكات حيث أدى إلى إعادة الوضع إلى ما كان عليه مع إنزال الألم الشديد بالمعتدين والثاني التحضير لمعركة حلب ومنطقتها وهي معركة ستشكل العلاج الجذري للانتهاك وستنفذ بتخطيط محكم ينجز التطهير دون أن يتسبب بانهيار وقف العمليات لأنها معركة ستكون المواجهة فيها ضد إرهابيين بالتصنيف اوضد جماعات مسلحة تحللت من وقف العمليات وارتكبت جرائم حرب باستعمال السلاح الكيماوي.