شهدت سورية يوماً انتخابياً طويلاً، وبالتالي نجحت دمشق في إنجاز الاستحقاق الديمقراطي، رغم حجم التهديدات التي حاولت أن تعيق هذا الاستحقاق الدستوري والديمقراطي، والتي تمثلت في أشكال مختلفة، أبرزها:
1- سعي المندوب الأممي إلى سورية ستيفان دي ميستورا، بشتى الوسائل والسبل،لعرقلة هذا الاستحقاق، وإصراره على إجراء المفاوضات السورية - السورية في نفس يوم الانتخابات البرلمانية، ووصل به الأمر لزيارة دمشق قبل ساعات من موعد هذا الاستحقاق، للبحث في أفق جولة الحوار الجديدة، كما أعلنت أوساطه، ولهذا لم يحدَّد له أي موعد مع الرئيس الأسد، فتمّ استقباله من قبل نائب وزير الخارجية السورية فيصل المقداد، وكان لقاؤه الوحيد مع الوزير وليد المعلم، وحينما لم يفلح بلقاء الرئيس الأسد، حاولت بعض أبواق المعارضات السورية أن تصوّر أن الموفد الأممي لم يطلب موعداً، وهو أمر غير صحيح بتاتاً، لأن الخارجية السورية هي من يحدد خط تحرّك ولقاءات أي موفد أجنبي، بمن فيهم دي ميستورا.
2- وفي محاولة يائسة لعرقلة هذا الاستحقاق الديمقراطي، كان هناك خرق واسع لوقف العمليات العسكرية في عدد من الجبهات في عدة محافظات، ما استدعى رداً حازماً من الجيش السوري وحلفائه، أدى إلى مصرع وجرح أعداد كبيرة من المسلحين.
3- رغم الواقع الأمني، فقد تميّزت الانتخابات التشريعية الجديدةباتساع الإقبال على الترشُّح، بحيث بلغ عدد المرشحين أكثر من ثلاثة آلاف مرشح، يتنافسون على 250 مقعداً نيابياً، ما يؤشر إلى ترسخ التعددية السياسية، جراء إقبال شرائح واسعة من المجتمع السوري على خوض غمار هذه التجربة الانتخابية، التي تجري للمرة الثانية في ظل التطورات السورية، ووفق الدستور المعتمد منذ العام 2012.
4- أكدت هذه الممارسة الديمقراطية إجماعاً سياسياً حول دور الدولة الوطنية السورية، وخيارها في مواجهة العدوان الاستعماري - الرجعي - التكفيري، كما شدّدت الخُطب والبرامج السياسية على عناوين اقتصادية لمواجهة المرحلتين: الراهنة، وما فيها من أمور، كغلاء المعيشة وارتفاع الأسعار، وتعثُّر الخدمات، ومواجهة الفساد وهلم جرا، والمقبلة؛ في شأن إدارة الاقتصاد وإعادة البناء والإعمار بعد انتهاء الحرب.
5- التجربة الديمقراطية السورية الجديدة، رغم كل الواقع وما فيه من تحديات ومخاطر، أكدت أن في سورية دولة عميقة، قادرة على إنجاز الاستحقاقات الدستورية في مواعيدها، وهو أمر غير متوافر في العديد من الدول التي تدعم الحرب العدوانية الاستعمارية، كحال دول الخليج، التي تنعدم فيها أبسط أشكال حرية الرأي والتعبير، وبالتالي فإن سورية التي أنجزت خلال الحرب عليها ثلاثة استحقاقات دستورية، أي انتخاب مجلس الشعب مرتين، والرئاسة السورية، هي دول قادرة على التفاعل والتقدم والاستمرار، وبالتالي أُسقطمنيديّ قوى العدوان على بلاد الشام، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، وسْم الدولة السورية بـ"الدولة الفاشلة أو العاجزة عن إجراء استحقاقاتها الدستورية والديمقراطية".
أثبتت التجربة الجديدة الخصوصية الوطنية والقومية للدولة الوطنية السورية، وأن كل بلد تُطبع تجربته السياسية وفق خصوصياته، واستحالة إملاء النماذج والطرق وفق واقع وتجربة بلدان أخرى، إذ كيف تستقيم، على سبيل المثال لا الحصر، دعوة السعودية للديمقراطية، وفيها تنعدم أبسط أشكال الحرية والتعبير عن الرأي؟ وكيف تستقيم دعوة رجب طيب أردوغان لاحترام التعددية السياسية، في الوقت الذي يُقفل محطات التلفزة والإذاعات والصحف، لأنها تنتقد ممارساته السياسية والسلطانية؟
بأي حال، من هاجَمَ التجربة الديمقراطية السورية الجديدة كان الأفضل له أن يتطلّع إلى التجارب الفذة بفرادتها في دول بائعي الكاز العربي، وممالكها.
ثمة واقع معروف، وهو أن شعوب بريطانيا وفرنسا وبعض الغرب ومعهم الولايات المتحدة، عريقة بديمقراطيتها، لكن من قال إن واشنطن هي عاصمة "إخوان الصفا"، ولندن عاصمة جمهورية أفلاطون، وباريس عاصمة الجمهورية الفاضلة؟ تذكروا أن الولايات المتحدة بحربها على العراق قتلت أكثر من 3 ملايين بشري عدا عن المشردين والخراب والدمار، وأن بريطانيا في حروبها الاستعمارية فرضت الأفيون على الصين والهند، وأبادت ملايين البشر، وهي من سلّم فلسطين للصهاينة، وأقامت المشيخات في الصحراء العربية، وأن باريس لها بصماتها الإجرامية في كل مكان من فيتينام إلى كمبوديا إلى بلد المليون ونصف مليون شهيد في الجزائر، دون أن ننسى مآثر إيطاليا في ليبيا وغيرها من دول الاستعمار القديم والجديد.
ثمة ملاحظة أخيرة، وهي أن الانتخابات السورية ترافقت مع موعد اجتماع منظمة التعاون الإسلامي في أنقرة، وقد يكون هنا ضرورياً التذكير أن دعوة سعودية ترافقت لحلف إسلامي في خضمّ معركة مصر في وجه العدوان الثلاثي عام 1956، وإبان انعقاد مثل هذا المؤتمر في العام 1969 كان حريق الأقصى في 21 آب.
ببساطة، هذا الواقع يذكّرنا بأن دولاً عربية ودولاً إسلامية لم تخرج من أحضان المحاولات الأميركية - البريطانية لإقامة أحلاف استعمارية ضد شعوبنا وحقوقنا ومستقبلنا، وللتذكير فقط: حلف بعداد عام 1956، ومشروع ايزنهاور 1957، والحلف الإسلامي 1956 و1969، ومشروع الشرق الأوسط الجديد، وبطلاه: أولاً شيمون بيريز، وثانياً، كونداليزا رايس.