لم يملك الرئيس الفرنسي خلال زيارته للبنان سوى المعزوفة المتداوَلة داخلياً وإقليمياً ودولياً؛ بوجوب انتخاب رئيس للجمهورية، وهو يدرك أن شعبية وجوب إملاء كرسي بعبدا كيفما كان، توازي شعبيته الحالية التي تتراوح ما بين 15 و18% للعودة إلى الإليزيه في الانتخابات الرئاسية الفرنسية قريباً، والزيارات "الهولاندية" إلى الخارج ما هي سوى استعراضات رئيس يرتحل، بعد أن ضاق الداخل الفرنسي بسياساته وضعف أدائه.
وإذا كان هولاند المهزوم داخلياً، ويواجه أعنف الحملات من اليمين الفرنسي، خصوصاً بعد تفجيرات باريس، فهو على المستوى الخارجي مجرد ممثل لدولة تابعة للقرار الأميركي، ولم تعد فرنسا ذات الهيبة في العالم عموماً والشرق الأوسط خصوصاً أو ذات تأثير يذكر، وبالتالي فإن زيارة هولاند إلى بيروت، رغم الطبل والزمر والسجاد الأحمر، لا تشبه بشيء زمن الجنرال غورو، لأن المندوبية السامية الفرنسية مرّ عليها الزمن، ودور "الأم الحنون" انتهى إلى غير رجعة، وأقصى ما أمكن فرنسا فعله في عهد الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أن عرضت نقل ثلاثة ملايين مسيحي إلى فرنسا، وهذا ما رفضه المسيحيون جملة وتفصيلاً.
وإذا كانت فرنسا ما زالت تتشدق بالديمقراطية، وتعتبر الديمقراطية اللبنانية "صناعة فرنسية"، وأن الدستور اللبناني مستوحى من الدستور الفرنسي والقوانين الفرنسية، فإن هولاند لم يكن واقعياً بالإصرار على الرئيس نبيه بري بوجوب نزول النواب إلى المجلس وانتخاب رئيس للجمهورية، لأن المجلس النيابي مدد لنفسه وضرب بالدستور والديمقراطية عرض الحائط، ثم إن النزول إلى المجلس ينتظر "مباركة" إيرانية و"إذناً" سعودياً، وقد سبق لهولاند أن حاول مع إيران عام 2015 ليكون لفرنسا الدور في لبنان، وها هو هولاند اليوم يعوض انكفاء دور المندوب السامي على لبنان؛ بأن ارتضى أن يكون منتدباً سعودياً تقديراً للصفقات التي أنعمت بها المملكة على فرنسا، ويتحدث بمنطق سعودي، وإن بلغة فرنسية، لتعويض السعودية ما خسرته من مصداقية في الشارع اللبناني، علماً أن هولاند ليست له "مونة" على السعودية لتحرير أسلحة فرنسية للجيش اللبناني نكثت السعودية بوعدها بها، نتيجة حقدها على المقاومة وحزب الله.
لا ينسى اللبنانيون الدور الفرنسي المشبوه في الإقليم العربي خلال عهد هولاند، والذي جعل فرنسا على هامش الملفات الإقليمية كلها في المنطقة، ولا تملك أي دور في أي ملف، خصوصاً بعد أن ذهبت بعيداً في خياراتها المنحازة للمجموعات المسلحة الإرهابية في سورية، ومارست عدوانية سياسية تجاه محور مقاومة "إسرائيل"، وجسّدت هذا الأمر بوضوح وإصرار في المفاوضات النووية التي أخذت فيها موقف الحليف لـ"إسرائيل" والمملكة السعودية، ولعبت دور المعرقل الدائم الذي يمثّل وجهة النظر "الإسرائيلية" - السعودية، وعندما شاركت فرنسا في مؤتمر فيينا بعد أن شاركت في مؤتمري "جنيف 1" و"جنيف 2"، فشلت في فرض نفسها كلاعب رئيسي في المشهد السوري، على عكس الدور الريادي لروسيا وإيران.
كائناً ما كانت نتائج زيارة هولاند، فهي من الهزالة بحيث يجب ألا تُحتسب على لبنان زيارة رئيس دولة، والحفل الحافل في قصر الصنوبر لن يعيد "انتدابية" فرنسا على لبنان، والرئيس بري كان جزءاً من البروتوكولية اللبنانية بغياب رئيس الجمهورية، والرئيس سلام مجرد رئيس حكومة تصريف أعمال، والبطريرك الراعي لم تعد رعيّته معنية بكل ما هو مستورد من الخارج، وقد يكون عدم لقاء العماد عون للرئيس الفرنسي الرسالة الأبلغ في الزيارة، إضافة إلى أن عدم حصول لقاء مع وفد من المقاومة أو حتى نائب من حزب الله يفرّغ الزيارة من كل المضامين، وتبقى العلاقة الحريرية - الفرنسية هي العنوان لخيبة هولاند، لأن الرئيس سعد الحريري حالياً يبحث لنفسه عن حصة في مجلس بلدي؛ من عكار إلى طرابلس مروراً ببيروت ووصولاً إلى صيدا والبقاع، وهو أبعد ما يكون عن كرسي السراي.
لا الملايين التي ستدفعها فرنسا مقسَّطة على سنوات تدعم لبنان شهراً واحداً في مواجهة أعباء الوجود السوري، ولا أسلحة فرنسية للجيش اللبناني تساهم في مواجهة الإرهاب، لأنها تشكّل خطراً على سلامة الكيان الصهيوني، ولا كلمة فوقية تمتلكها فرنسا على اللبنانيين لإعادة هيكلة المؤسسات الدستورية وانتخاب رئيس، وتبقى زيارة هولاند ضمن سياق استعراض رئيس لنفسه تعويضاً عن خيباته الداخلية والخارجية، ولا يستطيع أن يمارس دور مندوب سامي عفى عليه الزمن، ولا منتدَب سعودي لمملكة لم يعد لها دور في أية ملفات وفاقية؛ من اليمن إلى العراق إلى سورية وصولاً إلى لبنان.