في ختام المُحادثات التي جمعت في الرياض الرئيس الأميركي باراك أوباما مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي وصف أوباما القمّة بالناجحة بامتياز، لكن وبعيدًا عن المُجاملات الدبلوماسيّة التي نُقلت عن المُجتمعين، وبعيدًا عن العُموميّات التي أعُلن عن التوافق عليها، لا شكّ أنّ العلاقات الأميركيّة-السعودية قد دخلت منذ مدّة مرحلة مُختلفة تمامًا عمّا كانت عليه في السابق، وهو ما عبّر عنه رئيس الإستخبارات السعودي السابق تركي الفيصل خير تعبير بقوله: "الأيّام الخوالي بين المملكة والولايات المتحدة الأميركيّة إنتهت إلى غير رجعة، ويجب أن يُعاد تقييم العلاقة بين البلدين...". فما هي أسباب هذا التحوّل؟
1- العامل الأميركي: السبب الأبرز للتحوّل الذي طرأ في العلاقة بين الرياض وواشنطن يعود إلى إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما التي نقلت الولايات المتحدة الأميركيّة من مرحلة إلى مرحلة على الصعيد الخارجي، حيث جرى التخلّي عن السياسة الأميركيّة الهُجوميّة بسياسة دبلوماسية مرنة، وعن السياسة العسكريّة التي كانت رأس حربة في كثير من الحروب في العالم، إلى سياسة خلفيّة بالكاد تُحافظ على المصالح الأميركيّة. وقد خسرت السعودية بذلك الدعم العسكري الذي كانت تحصل عليه في السابق، وصارت مُضطرّة لتعبئة هذا الفراغ الأميركي عبر تدخّلها عسكريًا بشكل مباشر في بعض الأحيان، وبشكل غير مباشر في أحيان أخرى.
2- العامل الروسي: بعد غياب عن الساحة العالميّة إعتباراً من مطلع تسعينات القرن الماضي، مع إنتهاء حقبة الإتحاد السوفياتي السابق، عادت روسيا الإتحاديّة إلى الساحة الدَوليّة كلاعب أساسي جاهز للتدخّل عسكريًا للدفاع عن مصالحه وعن حلفائه، كما حصل في الشيشان وأوكرانيا وسوريا، إلخ. وقد إصطدمت روسيا مع السعودية بسبب تضارب مصالح كلّ منهما على أكثر من ساحة دوليّة، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، من دون أن تجد الرياض في واشنطن الحليف الذي يُسارع إلى نجدتها في صراعها مع روسيا، بسبب إختلاف الإعتبارات والمصالح الأميركيّة عن الإعتبارات والمصالح السعوديّة، الأمر الذي ساهم بقلب موازين القوى لصالح خُصوم النظام السعودي في أكثر من ساحة صراع، ومنها في سوريا.
3- العامل الإيراني: بعد مُعاناة إيران من عُقوبات دَوليّة وأمميّة بالجملة، نجحت عبر توقيعها الإتفاق مع الدول الغربيّة في حزيران من العام 2015، بالخروج من عزلتها، الأمر الذي إنعكس إيجابًا على طهران من النواحي السياسيّة والإقتصادية والمالية، إلخ. وكانت إيران طوال فترة العُقوبات قد ركّزت جُهودها على بناء قوّتها العسكريّة، وعلى إيجاد أحزاب وتيّارات عسكريّة مموّلة ومدرّبة من قبلها داخل الدول العربيّة، مُستفيدة من التدخّل العسكري المُباشر الذي أزاح عنها خطرين مباشرين على حدودها، الأوّل عندما سحقت واشنطن حركة طالبان في أفغانستان إعتبارًا من العام 2001، وعندما أسقطت واشنطن حكم الرئيس العراقي صدام حسين في العام 2003، الأمر الذي سمح بنموّ النفوذ الإقليمي لإيران على حساب النُفوذ السعودي. ولم تأخذ واشنطن مخاوف الرياض بالإعتبار بتوقيعها الإتفاق مع إيران، ما سمح لهذه الأخيرة بتهديد المصالح السعودية بشكل مُباشر عبر تأمين الدعم اللوجستي لتنظيم "أنصار الله" في اليمن، وبشكل غير مباشر عبر دعم النظام السوري و"حزب الله" وبعض المسؤولين العراقيّين، إلخ.
4- العامل الإسلامي: دفعت السعودية غاليًا ثمن صُعود موجة الإسلاميّين المُتشدّدين، حيث تدهورت علاقاتها مع روسيا بسبب إتهام موسكو للرياض بدعم بعض هذه الفصائل بشكل أو بآخر ما أثّر سلبًا على المصالح الروسية في دول البلقان، وتدهورت علاقاتها مع أميركا بسبب إتهام واشنطن للرياض بعدم العمل على مُكافحة ظاهرة الإسلاميّين المُتشدّدين بالشكل اللازم ما أثّر سلبًا على المصالح الأميركيّة عالميًا، علمًا أنّ الرياض إصطدمت مع كثير من الفصائل الإسلاميّة المُتشدّدة بسبب خلافات عقائديّة في بعض الأحيان وبسبب تنافس على الزعامة في أحيان أخرى، ما جعلها بموقع العداوة أو الخصومة على الأقلّ مع العديد من الأطراف المعنيّين بهذه القضايا في آن واحد. وقد بلغ تحريك واشنطن لهذا الملف بوجه الرياض، حدّ إعادة التذكير بأحداث 11 أيلول 2001، وبتورّط سعوديّين في الهجوم الدموي.
في الخلاصة، لا شكّ أنّ كل هذه الخلافات الإستراتيجيّة، وليس التكتيكيّة-كما حاول الرئيس الأميركي وصفها في زيارته الأخيرة إلى الرياض، أسفرت عن وُصول العلاقات الأميركيّة-السعوديّة إلى مرحلة كبيرة من التدهور. لكنّ الحسنة الوحيدة لهذا الأمر بالنسبة إلى الرياض أنّ المملكة تعمل حاليًا لتعويض غياب الدعم الأميركي السابق لها، بالإعتماد أكثر على قُدراتها الذاتية، وبالعمل على تشكيل تحالف إسلامي واسع قادر على التخفيف من وطأة ما تصفه بالتحدّي الروسي والتمدّد الإيراني في المنطقة.