هي نفسُها بيروت التي رفضت كلّ المناطق استقبال نفاياتها، تصحو النزعة المحافظة في نفوس ناسها من قاطنيها، فيقرر منهم أن “بيروت مدينته”، فيما يذهب آخرون الى ادّعاء حمايتها “من غير أهلها الأصيلين".
هي نفسُها تلك البيروت، تشبه الجبّانة التي لا تلفظ ميتًا، وتحتضن كلّ المشهديات إلا ما يشي بأنها أمّ شرائعَ ما في بلدٍ ما.
هي نفسُها تلك البيروت التي تحفظ ذاكرتها منذ 40 عامًا أبشع صور الحرب، عادت لتشهد على “ميني حربٍ” في أحيائها منذ ثمانية أعوام، لا بل هي نفسها تلك التي يسرح فيها الرصاص ويمرح تارةً في وجه متظاهرين مدنيين، وطورًا على شرف قادة الأحزاب والمحاور احتفالًا أو تشييعًا.
هي نفسُها تلك البيروت التي يختنق سكانُها من روائح النفايات والمدابغ وكلّ أنواع القرف البشري.
هي نفسُها بيروت التي يأكل الحجر خُضرتَها وتعبث الدواخين في صفاءات سمائها، وتتراصف المركبات فوق بعضها في أحيائها الضيّقة.
هي نفسُها تلك البيروت التي لم تعد شوارعها تستقبلك بعبارة “شارع ذو طابع تراثي” بعدما نهشت النزعة المعمارية تراثَها.
هي نفسُها تلك البيروت التي أتخمها مُدّعو حبّها وعشقها شعاراتٍ ومزايداتٍ ومشاريع يعرفون أن 10 في المئة منها لن يتحقّق إما بفعل غياب التمويل متى كان المتحكّمون من أبناء الشعب وإما بفعل التناسي والتجاهل لمصالح مبيّتة متى كان المتحكّمون من أبناء الرأسمال.
هي نفسُها تلك البيروت التي ما ضجروا من نَظم الشعر فيها وفي شرائعها وأسواقها وشجرة ميلادها وزينتها الرمضانية مع ألف “تربيح جميلة” علمًا أن كلّ هذا “الجاه” مصدره أموال البيارتة وغير البيارتة.
هي نفسُها تلك البيروت التي ما عادت تعرف نفسَها، والأنكى من ذلك أن بعض داعمي طارحي مشروع إبقائها لأهلها هم أنفسهم من هشّل أهلها وأرغمهم على بيع عقاراتهم “بالرخص”. ولم يكن أفضل منهم من يتشدّق اليوم بمشروع مَدني في وجه السلطة مع أن بعض أناسه نزلوا في الأمس الى الشارع تحت عناوين انفلاشية بهدف “إسقاط النظام” وما حققوا شيئًا سوى شلّ البلد.
بيروت ليست للبيارتة وحدهم، وبيروت ليست مدينتهم وحدهم. بيروت موطني أيضًا مع أنني من قاطنيها من غير المنتخبين فيها. بيروت لم تلفظني يومًا لأنني جنوبي أو شمالي أو بقاعي أو كسرواني تعدّى على ممتلكاتها وصادر إحدى شققها. بيروت ليست عنصريّة لتطرد من لا تستفيد من أصواتهم، ولا هي ساذجة لتصدّق ما يطرحه غير المحزّبين من قائلي الكثير وفاعلي القليل.
بيروت لي أيضًا. لكلّ طالبٍ العلم في صروحها، لكلّ نازح اليها، لكلّ قاطنٍ فيها منذ عشرات السنوات، لكلّ مهجّر إليها طالبًا الملاذ، لكلّ سائق أجرة يتوه في شوارعها بحثًا عن قوتٍ، لكلّ مستأجر قديم يصارع محاولات طرده من ذكرياته، لكلّ مالك قديم طامح الى استعادة حقّه، لكلّ صاحب مهنة شريفةٍ يجول بعربته أو يجلس راخيًا قدميه في أحد متاجرها. بيروت ليست ربطة عنق، ولا هي حديقة عامّة. بيروت لي أيضًا. لكلّ بيروتي منذ أكثر من عشر سنوات. لكلّ شابٍ توجّه اليها في سني العمر الصغيرة باحثًا عن عملٍ بعدما أضناه البحث عنه في الريف.
مؤلمٌ أن يُحرَم الريف مما لم تعد العاصمة قادرة على تأمينه. مؤلمٌ أن تُتخَم بيروت الى هذا الحدّ بأناسٍ يرهقون زفتها قبل نفوسهم، ولكن المؤلم أكثر أن يشعر مراقب المتنافسين على بيروت بأنه بات غريبًا عن هذه المدينة، لا ينتمي اليها رغم أنه أمضى فيها نصف عمره أو ثلاثة أرباعه وما بقي أمامه سوى أن يُدفَن في إحدى مقابرها أو جباناتها غير المتوفرة لأهلها أصلًا.
حتى بيروت تقاسموها وأدخلوها سوق البزارات الاحتكارية. حتى بيروت التي لم نعد نتنشّقها عطرًا تقاسموها. حتى بيروت التي ما عاد كبارُنا يعرفون ساحة برجها والزيتونة والسوق الطويل تقاسموها. حتى بيروت التي باتت تتسلل الى عروقنا مرضًا تقاسموها. هذه بيروتُهم وحدهم، أما نحن من مدمنيها بلا غاية فلنا بيروتُنا...