يبدو الرجل كمن أخذ عهداً على نفسه ألا يغيب عن الساحة. لا يوجد عنده شيء اسمه «برستيج». الوزير السابق شربل نحاّس مرشّح لانتخابات بلديّة بيروت، نعم، في وجه الحريريّة، وكلّ اللوائح، وكلّ شيء. لن يعبأ بلغة الربح والخسارة. المهم ألا نستسلم «لهم». الرجل يحمل مستوى «استثنائياً» من الأمل
لا يريد شربل نحّاس أن ييأس. لم يفلح شيء في جعله يفقد الأمل. لا، ليس مجرّد الأمل. الرجل يُريد أن يُقاتل، دائماً، أبداً. إن كنت لا تحبّه، لأي سبب كان، فما الذي ستقوله عنه؟ «ثقيل الدم»؟ لا بأس، هو قالها عن نفسه، أمس، عارفاً أن هناك من يراه كذلك. تُريد أن تراه كطالب في مدرسة، بينما رفاقه يلعبون أثناء فرصة نصف الساعة، فيأتي إليهم ليخبرهم عن مسألة مهمّة، تعني حياتهم، فيُعرضون عنه، ثم يكرهونه، إذ يُفسد عليهم استغراقهم في لعبهم! هذا هو شربل نحاس. هو لا يُنكر. يروقه أصلاً هذا المثَل عنه.
ها هو الآن يُقارع سعد الحريري في انتخابات بلديّة بيروت. لا تعنيه حسابات الربح والخسارة «التقليديّة». الأمور محسومة، صحيح، لكنه يُريد أن يقول: نحن هنا، لم نمت بعد. أو بمعنى آخر، لن تفلحوا في قتلنا.
حتى ولو فعلتم، وحصل ما حصل، فلن نموت إلا ونحن نبصق في وجوهكم. لم يقلها هكذا. لكن لا شيء يُفسّر «جنون» هذا الرجل إلا أن يكون كذلك. الجنون مفردة غير محترمة، غالباً، في بلادنا. يمكننا القول إن جنون نحّاس ليس ضد «العقلانيّة» في الفلسفة، بل تمرّد على كلّ موت، كلّ ذل، يخرج من يُبرّره باسم العقل. جنونه ضدّ طلسمة الذهن. طريقته ربما تنطبق عليها مقولة أحد الهنادكة: «إذا لم يشكّ شخص واحد أسبوعياً بأنّك مجنون، فأنت لا تُحدث تأثيراً حقيقيّاً في هذا العالم». حسناً، ليس الاختبار الأول له، على أكثر من صعيد، ومع ذلك لا يريد أن ييأس. هو حرّ. وهذه الـ»حرّ» هنا ليست سوقيّة إطلاقاً. هو حرّ وفقط.
مهمة فدائية جديدة يتكفّلها نحّاس، باسم كلّ «الصعاليك» من كافة الجهات
لن يكتفي بالتصويب على لائحة الحريري، أو لائحة البيارتة، التي يسخر من تسميتها، بل تجده «غير مرتاح» أيضاً لتلك اللائحة الثالثة: «بيروت مدينتي». الكلّ يمكنه أن يضع مشاريع انتخابيّة، الكلّ يمكنه أن يُنشىء كلاماً، ولكن «ما زلت لا أفهم كيف للبعض أن يفهم الانتخابات البلدية كإطار إنمائي فقط، كيف! لا يوجد شيء اسمه «بعيداً عن السياسة». ليست مهمّة البلديّة أن تسقي شجيرات المدينة. نحن نعيش في منطقة تحترق». لا حاجة لذكر موقف نحّاس من لائحة الحريري. لا يعوّل الرجل على من لم يُدرك بعد أن الحريرية، بمختلف نسخها، كانت إحدى أدوات قتلنا منذ انتهاء الحرب الأهلية.
الإنتخابات بعد يومين. جلس نحّاس في «مركز توفيق طبّارة» أمس، ومن حوله ثلّة مِن «الخوارج» على النظام القائم، وراح يقول: «الانتخابات البلدية ليست مهرجاناً بلدياً ولا عائلياً، وليست مجرد إنماء ولا كناسة شوارع. يوم الأحد المقبل، ومع اغلاق صناديق الاقتراع البلدي، سيفقد مجلس النواب شرعيته الدستورية، المكذوبة أصلاً، إذ تكون حجة التمديد لمجلس النواب الحالي قد سقطت، وقد كانت، بحسب المجلس الدستوري، تتلخص في عدم القدرة على إجرائها لأسباب أمنية». من كان وزيراً، سابقاً، ها هو يُرشّح نفسه لبلديّة. غريبة في لبنان؟ يعرف هو ذلك. لكن «نحن نعيش على الصوَر. كل الصور النمطية في بلدنا مشوهة. كثيرون يرون أن حيثياتهم لا تسمح لهم بما يرونه نزولاً لمستوى بلدية، للأسف». ربما لو وجد من «تنازل» مثله لتحالف معه نحاس المرشّح ضمن إطار حركة «مواطنون ومواطنات في دولة»، لكن لم يفعلها سواه. المهم، الانتخابات بعد يومين، هي عنده أكثر من مجرّد بلدية، خاصة في الحالة التي نعيش فيها. يقول: «إن المواد القانونية تتحدث عن دور للبلدية في كل ما هو ذو منفعة عامة. دور اختصاصي. وبالتالي مع انهيار الدولة الذي نشهده، والذي قد تزداد حدته، ستكون السلطات كلّها في يد البلديات، كونها هي المجالس المنتخبة من الناس، هي الشرعيّة الوحيدة، بعد سقوط شرعية النواب الحاليين». يستمر نحّاس في جَلد كل فاقد للأمل يسمعه. يتحدّث عن دور البلدية تجاه أزمة السكن! مسألة أخرى غريبة يطرحها. يستشهد بالقانون، بمواد محددة، يستخرج منها قدرة البلدية على عدم منح رخصة بناء، خاصة في العاصمة، لكل من يرفض أن يخصص في مبناه (أو قل برجه) الضخم عدداً من الشقق لذوي الدخل المحدود وأصحاب الحاجات الخاصة. يقول: «بهذه الطريقة يمكننا أن نحدّ من هجرة الشباب... لو أرادوا حقاً».
كانت تجلس إلى يمينه غادة اليافي، المرشحة إلى جانب نحاس في بيروت على لائحة «مواطنون ومواطنات». نالت لائحة الحريري من اليافي ما تستحق من «التقريع». ابنة الرئيس الأسبق للحكومة عبدالله اليافي، لا تثق اليوم إلا بـ»نحّاس ومشاكسته وتمرّده». معها جورج صفير وياسر ساروط، ويكتمل عقد اللائحة من أربعة أشخاص، على مستوى بيروت.
مهمة فدائية جديدة يتكفّلها نحّاس، باسم كلّ «الصعاليك» من كافة الجهات، من بعد ما «لفظه» النظام سابقاً. معركة أخرى، بعد معاركه مع وزراء ونواب وقضاة وأمنيين ونافذين، على مدى السنوات الماضية، والتي قد يُنسى بعضها سريعاً، إنما لن يُنسى بسهولة يوم لم تحتمله كلّ القوى السياسيّة، مجتمعة، وزيراً في حكومة... «طرد نفسه» منها.
حجم الأمل لدى نحّاس، والإصرار عليه، مستفزّ جداً لكثيرين، من محبّين وكارهين. ذات يوم، كتب أنسي الحاج عن «سيوران القاتل». استُفز الحاج مِن إخلاص «رسول العدم» (الفيلسوف إيميل سيوران) ليأسه وتشاؤمه، حتى نهاية حياته التسعينية: «بولائه حتى مماته لسوداويّته ولاءً منهجيّاً انضباطيّاً مدمّراً». لم يتب عم بدأه شاباً. ويختم: «أنْ يُثابر كاتب على حشيشة الفراغ، كما فعل سيوران، فأمرٌ لا يضاهيه غير القتل». لو أردنا استعارة استفزاز أنسي الحاج، ولكن من باب آخر، معكوساً ضد اليأس، الأمل الذي لا توبة عنه، فيمكننا أن نقول عن صاحبنا اليوم: «شربل نحّاس القاتل».