بعد المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو، يوم أمس، يمكن القول منذ الآن أن الرجل أصبح خارج منصبه، نتيجة خلافاته مع الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، بالرغم من أن "مهندس" السياسة الخارجية لحزب "العدالة والتنمية"، أصر على العلاقة المتينة التي تجمعه مع زعيم الحزب، الطامح إلى أن يكون "سلطاناً" على كافة المستويات، لكنه أخرج نفسه من الصراع عبر الإعلان عن عدم رغبته بالترشح مجدداً لرئاسة الحزب الحاكم.
من حيث المبدأ، لن يكون أوغلو ضحية أردوغان الأولى، وهو حكماً لن يكون الأخير، فقد سبقه الرئيس الأسبق عبدالله غول والداعية التركي فتح الله غولن، إلا أنه أكد ما كان معروفاً، منذ أشهر طويلة، عن رغبات الرئيس التركي، أي السعي إلى أن يكون الزعيم الأوحد في البيت الداخلي وعلى مستوى الوطن، ما يعني أن ليس هناك من مكان لشريك له لا ينفذ رغباته المطلقة مهما علا شأنه، وحتى ولو كان صديق حياته السياسية أو رئيس الوزراء.
في هذا السياق، يشكل النظام السياسي نقطة الخلاف الأساسية بين الرجلين، فأردوغان يريد الإنتقال من البرلماني إلى الرئاسي، الذي يمنحه صلاحيات أوسع على مستوى إدارة شؤون البلاد، في حين أن أوغلو لا يريد هذا التحول، أو على الأقل ليس متحمّسًا له في الوقت الراهن، نظراً إلى أنه سيكون المتضرر الأول منه، حيث ستنتقل مختلف الصلاحيات التي بين يديه من رئاسة الحكومة إلى رئاسة الجمهورية، مع العلم أن الرئيس الحالي يتصرف منذ إنتخابه على أساس أنه الزعيم المطلق، مستفيداً من الهالة التي يتمتع بها على مستوى "العدالة والتنمية"، حيث يمسك بمختلف مفاتيح الحزب التي تخوله القيام بأي خطوة من دون محاسبة.
على هذا الصعيد، كان "السطان" يريد من "صديقه" الإسراع في دفع البرلمان نحو تبني التحول الدستوري الجديد، لكن أوغلو فضل "المراوغة"، لا سيما أن الحزب لا يملك الأغلبية النيابية المطلقة، التي تخوله تحقيق هذا الهدف، حيث من المفترض به عقد صفقة ما مع فريق من قوى المعارضة على الأقل، بالإضافة إلى رغبته في رفع الحصانة عن أعضاء كتلة حزب "الشعوب الديمقراطي" الكردي، بسبب مواقفهم المتضامنة مع منظمات "إرهابية"، بحسب تصنيف "العدالة والتنمية"، الأمر الذي دفع الرئيس الحالي إلى تفجير الخلاف في وجهات النظر بشكل علني، بدءاً من سحب صلاحية تعيين مسؤولي الحزب بالأقاليم من رئيس الحزب الحالي، أي أوغلو، وصولاً إلى تسريب معلومات عن رغبة الأخير في "الإنقلاب" عليه، بالتعاون مع الداعية غولن وجهات خارجية.
على ما يبدو، لا يملك رئيس الوزراء القدرة على المواجهة، بالرغم من ادراكه بأن العديد من القوى الداخلية والخارجية لا تريد بقاء أردوغان في السلطة، وهو ما يُفسر عدم تردده بالإعلان عن إستعداده للإنسحاب من المشهد السياسي، الذي تم ترجمته يوم أمس خلال المؤتمر الصحافي، فالرئيس التركي لا يتمتع بأفضل العلاقات مع الولايات المتحدة، كما أن معظم الدول الإقليمية لا تفضل التعاون معه، في حين يوصف على المستوى الداخلي بـ"الديكتاتور" الذي يريد السيطرة على كل شيء بالقوة، من دون إهمال الإتهامات بالتورط في الفساد التي طالت مقربين منه، لكنه مقابل ذلك يدرك جيداً كيف يدير معاركه، فهو قادر على أن يحول الصراع على السلطة إلى قومي أو طائفي، في وقت يسعى فيه إلى تكريسه نفسه مدافعاً عن الإسلام والمسلمين على مستوى العالم، وهو ما كان واضحاً بخطابه في قمة منظمة التعاون الإسلامي الأخيرة.
إنطلاقاً من ذلك، لن تمر المعركة المحسومة النتائج، بسبب قرار رئيس الوزراء، من دون تداعيات تذكر على الأوضاع التركية الداخلية، فهي تعكس توجهاً عاماً سيكون طاغياً على مستوى السياسة الخارجية، كان الكثيرون يراهنون على دور أوغلو في الحد من حدته، فالدولة التي تخوض معارك مفتوحة مع الأكراد والمتطرفين الإسلاميين من جهة، تعاني من تصدع في علاقاتها مع دول الجوار من جهة ثانية، بعد أن كانت نظريتها السياسية تقوم على قاعدة صفر مشاكل، كما أن تحالفها الإستراتيجي مع الولايات المتحدة يعاني من تصدعات، بسبب التعارض بالمصالح على مستوى الحرب السورية، من دون إهمال الأزمة المفتوحة مع موسكو، بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية، في وقت توجه لها الإتهامات بالتعاون مع المنظمات الإرهابية والتسبب في أزمة اللاجئين إلى الإتحاد الأوروبي.
في المحصلة، ستكون أنقرة على موعد مع مرحلة سياسية جديدة، في الأيام المقبلة، لن تكون سهلة على الإطلاق بسبب تعدد الأزمات وتشعبها، وهي قد تكون مفصلية على مستوى مشروع رئيسها السياسي، فهل نجح أردوغان في "إبعاد" أوغلو من الواجهة، أم أن الأخير فضل ترك "صديقه" في المعركة وحيداً؟