بعد صُدور النتائج الرسميّة للإنتخابات البلديّة والإختياريّة في كل من بيروت وزحلة، تعرّضت الجهات السياسيّة الفائزة لحملة إعلامية قويّة من القوى المُناهضة لها، في مُحاولة لحرمانها فرحة الإنتصار المُحقق. فقيل وكُتب الكثير عن إنقسام "التيار الوطني الحُرّ" على نفسه وعجزه عن مدّ الحُلفاء المُفترضين في اللوائح بالدعم المطلوب، وقيل وكُتب الكثير أيضًا عن ضُعف أداء "القوّات اللبنانيّة" في بيروت وعن تحقيقها لأرقام مُتواضعة في زحلة، إلخ. فهل هذا صحيح؟

بداية، لا بُد من التذكير أنّ ما من حزب أو تيّار سياسي في العالم قادر على تحقيق نتائج ساحقة في أي إنتخابات ديمقراطية حقيقية، إلا في الدُول الديكتاتوريّة حيث تُقارب نسب التأييد المُزوّرة أرقامًا خياليّة. والتالي من الطبيعي أن لا يتمكّن أي طرف مهما عظم شأنه، ومهما بلغ حجم التأييد الشعبي الذي يحظى به، من القضاء على خُصومه بأكثر من الفوز المريح، خاصة عندما تكون الإنتخابات لها طابع بلدي -إنمائي وعائلي- مذهبي، بموازاة الطابع السياسي. وبعيدًا عن العُموميّات، وبالنسبة إلى إنتخابات بيروت، يمكن تسجيل المُلاحظات التالية:

أوّلاً: صحيح أنّ نسبة المُشاركة في العمليّة الإنتخابيّة كانت مُتدنّية، لكنّ الأصحّ أنّها عادلت نسبة المُشاركة في إنتخابات الدورة السابقة في العام 2010. والمُشاركة السنّية كانت جيّدة ومُلتزمة إلى حد كبير بتعليمات رئيس "تيّار المُستقبل" النائب سعد الحريري، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أصوات الناخبين الأرمن الكثر في بيروت، حيث برز الإلتزام التام لمناصري حزب "الطاشناق" الذي أثبت مرّة جديدة إمساكه بالشارع الأرمني. وحدها المشاركة المسيحيّة كانت مُتواضعة نسبيًا لأسباب عدّة، تبدأ بعدم الرضا عن أداء المجلس البلدي الحالي، وتمرّ برائحة النفايات التي لا تزال في الأنوف، وتصل إلى التأثر بما يُحكى إعلاميًا عن صفقات مشبوهة في بيروت.

ثانيًا: إنّ الحديث عن تحالف عريض بمواجهة لائحة تُمثّل "المُجتمع المدني" هو تزوير مُتعمّد للحقائق. فحجم التأييد المالي والإعلامي كان مُتوازيًا بشكل واضح للجميع بين لائحتي "البيارتة" و"​بيروت مدينتي​"، وبالنسبة إلى حجم الدعم السياسي، فإنّ لائحة "الناشطين" لم تكن يتيمة أبدًا، ونالت دعم مجموعة من القوى السياسيّة المُناهضة لـ"تيار المُستقبل"، في الوقت الذي أدّى أكثر من سبب إلى إحجام القوى الحزبيّة المسيحيّة عن دعمها بالشكل الكافي.

ثالثًا: واجه "التيّار الوطني الحُر" صعوبة بالغة في إقناع مُناصريه بهذا التحوّل المُفاجئ على صعيد التحالفات، بعد سنوات من الحملات على "التيار الأزرق" وعلى "سوليدير" وغيرهما، خاصة في ظلّ النقمة المُتصاعدة للمُناصرين "العَونيّين" على "تيّار المُستقبل" بسبب موقف هذا الأخير من ترشيح "الجنرال" لمنصب رئاسة الجمهوريّة. يُذكر أنّ "التيار الوطني الحُر" لم يحسم خياره النهائي في المعركة الإنتخابيّة إلا قبل ساعات من فتح أبواب الإقتراع، الأمر الذي أربك مناصريه. كما أدّت خلافات سياسيّة ومناطقية بين مسؤولين كبار في "التيّار" إلى زيادة الطين بلّة، ما سمح بتسرّب بضعة آلاف من أصوات المُحازبين والمؤيّدين للتيار البرتقالي إلى لائحة "بيروت مدينتي"، بدلاً من لائحة "البيارتة" كما هو مُفترض!

رابعًا: بعد إعلان لائحة توزيع المخاتير بين القوى السياسيّة المُختلفة، وبعد إستبعاد مجموعة من الأشخاص كانوا وُعدوا بتبنّي ترشيحهم عن لائحة الأربعين مختارًا، سُجّل تململ واسع من جانب المُتضرّرين ومؤيّديهم، خاصة أنّ بت أمر هذه اللائحة لم يأت من القاعدة والعائلات، ما دفع الكثير من الناخبين المسيحيّين في دائرة بيروت الأولى، ومنهم بعض الناخبين المحسوبين على "القوات" والكثير من الناخبين المحسوبين على "الكتائب اللبنانيّة"، إلى التصويت للائحة "بيروت مدينتي" أو إلى الإحجام عن التصويت في أفضل الأحوال. والخلاف الداخلي على المخاتير طال أيضًا "التيار الوطني الحُر"، حيث سُجّلت ترشيحات فرديّة لعونيّين معروفين، لكن من خارج اللائحة المُتفق عليها بين مختلف القوى السياسيّة، ما أدّى إلى مزيد من الضياع على مُستوى الناخبين.

وبالإنتقال إلى إنتخابات ​مدينة زحلة​، يُمكن تسجيل المُلاحظات التالية:

أوّلاً: تأثّر الكثير من الناخبين في زحلة بالعامل العائلي، حيث أنّه لم يكن من السهل على من يحملون إسم عائلة "سكاف" أو "فتّوش" على هويتهم تحمّل فكرة ضرب نفوذ "عائلتهم" المُتجذرة في المدينة. ولم يكن سهلاً على الناخبين من مذهب "الروم الكاثوليك" والذين يُشكّلون الأغلبيّة في "عروس البقاع"، المُشاركة بضرب الرمزين الكاثوليكيّين في المدينة، خاصة في ظلّ عدم وجود شخصيّة كاثوليكيّة مع الأحزاب التي هي برئاسة شخصيّات مارونيّة، قادرة على تعبئة هذا الفراغ.

ثانيًا: إنّ زحلة مدينة صغيرة ومحصورة جغرافيًا، وأهلها يعرفون بعضهم أشدّ معرفة، وتربطهم علاقات صداقة وودّ، علمًا أنّ خدمات "الكتلة الشعبيّة" مع الكثير من أبناء زحلة لا تُعدّ ولا تُحصى، لجهة توفير فرص العمل وتقديم المُؤازرة والدعم على مختلف الصعد، وذلك على مدى عُقود وليس سنوات، وأموال "آل فتّوش" المُتأتيّة من "إمبراطوريّة" الكسارات والمرامل ومن تعويضات خزينة الدولة اللبنانيّة كانت مُغرية للكثيرين، علمًا أنّ خدمات الوزير السابق نقولا فتّوش كبيرة في المدينة أيضًا.

ثالثًا: لم يكن سهلاً على مؤيّدي "التيّار الوطني الحُر" التخلّي كلّيًا عن النائب نقولا فتّوش، والإنتقال بشكل مُفاجئ من ضفّة سياسيّة إلى أخرى، خصوصًا أنّ معركة زحلة كانت الجولة الأولى بعد التفاهم "العَوني-القوّاتي" الذي لم يترسّخ في الأذهان بعد.

رابعًا: من أصل نحو ستة آلاف مُقترع شيعي وسنّي في المدينة، نالت كل من اللائحتين المدعومتين من آل سكاف وآل فتوش نحو خمسة آلاف صوت مقابل نحو ألف صوت فقط ذهبت إلى اللائحة المدعومة من الأحزاب المسيحيّة، ما يعني ضرورة حسم ما لا يقلّ عن 2500 صوت عن كل من اللائحتين المنافستين للائحة الأحزاب، للحصول على مُقارنة عادلة لتوزيع أصوات الناخبين المسيحيّين.

في الخلاصة، صحيح أنّ "التيّار الوطني الحُر" تعرّض لانتكاسة بسبب خروج بعض الحزبيّين والكثير من المُؤيّدين عن توجيهات "الجنرال"، نتيجة عدم تمكّنهم من هضم التغيّر السريع في التحالفات الإنتخابيّة، لكنّ هذا الأمر لا يعني إطلاقًا أنّ "التيار" مقسوم أو في وضع غير قادر على الحسم أو تجيير الأصوات، حيث أنّ نتائج الجولة الأولى من الإنتخابات أثبتت قُدرة "التيار" على المُشاركة والفوز في مختلف المناطق التي يوجد فيها إنتشار مسيحي. وبالنسبة إلى "القوّات اللبنانيّة"، وإذا كان صحيحًا أنّها لم تتمكّن من تحريك كامل قوّتها التجييريّة في بيروت للائحة "البيارتة"، فإنّ الأصحّ أنّها أثبتت أنّها الرقم الصعب في زحلة، وأنّ إمتداداتها الشعبيّة غير المرئيّة في البقاع وغيره تصل إلى أماكن بعيدة ومنها راس بعلبك والقاع-كما أظهرت الجولة الأولى من الإنتخابات. وللبحث تتمّة مع إتمام الجولات الإنتخابيّة المُقبلة...