انتهت الجولة الأولى من الانتخابات البلدية، دون أن يسجَّل أي خرق أمني أو استهداف لمراكز الاقتراع، ما يُسقط كل الذرائع التي تذرّعت بها السلطة السياسية لتصادر قرار الشعب خلافاً للدستور والقوانين، وتمارس السلطة بمجلس نواب ممدِّد لنفسه خارج إطار الشرعية الدستورية والشعبية.
لعله من المفيد، وبعد انتهاء فرز الصناديق وظهور النتائج الرسمية في كل من بيروت والبقاع، أن يعمد كل طرف سياسي مشارك فيها إلى مراجعة نقدية للواقع السياسي الذي عكسته النتائج، للاستفادة من العبَر، ويمكن لفت النظر إلى ما يلي:
أثبتت معركة زحلة أن التفاهم بين التيار الوطني الحر و"القوات اللبنانية"، وكما كان مقدَّر له منذ حصوله، قادر على تحقيق تغيير سوسيولوجي سياسي في المجتمع المسيحي؛ تماماً كما فعل تحالف "أمل" - حزب الله في المجتمع الشيعي، وكما فعلت "الحريرية السياسية"مع رفيق الحريري في المجتمع السُّني اللبناني؛ أي خلخلة البنية الإقطاعية التقليدية التي تحكّمت بالمجتمع وأقفلت على المجتمع أي إمكانية للتغيير خارج الطبقة الإقطاعية، وحرمت أبناء العائلات المتوسطة وخريجي الجامعات وأصحاب الكفاءات من أي إمكانية لاختراق ما في جدار سميك مقفل وممهور باسم البيوت السياسية.
أما بالنسبة لبيروت، وبما لها من رمزية سياسية تفوق رمزية المناطق الأخرى، فقد أظهرت الانتخابات البلدية فيها أزمة جميع الأحزاب والقوى السياسية بدون استثناء.
وإذا كانت "الحريرية السياسية" تعاني من ضعف وترهُّل بعد الأزمات المتلاحقة التي عانى منها "تيار المستقبل"؛ من أزمات مالية طاولت مؤسساته، وغياب رئيسه، وانقسامه إلى تيارات تتنافس بين بعضها البعض، مصحوبة بمحاولة سعودية لتحجيم الحريري شخصياً، فإن اللافت كان ظهور الأحزاب المسيحية مأزومة على خطين: خط الشعب الذي مارس حريته في التصويت والتشطيب، وخط الملتزمين الذين أظهروا تمرُّداً علنياً قلّ أن ظهر بهذه الحدّة والصراحة من قبل.
ولعل أزمة "الكتائب" و"القوات اللبنانية" لا تقلّ حراجة عن أزمة التيار الوطني الحر مع مناصريه في الدائرة الأولى من بيروت، والتي يتناقلها الإعلام وكأنها الأزمة المسيحية الوحيدة الموجودة، وذلك لأن الشفافية التي اعتاد عليها "التيار"، وحرية التصريح وإمكانية التسريب والمصادر التي تميّز بها، تجعل من أي مشكلة داخلية تتحول إلى مادة دسمة على صفحات الجرائد، بينما لا تتوافر هذه العناصر لدى الأحزاب الأخرى.
والحقيقة أن المشكلة التي يعاني منها التيار الوطني الحر ليست مشكلة انتماء بقدر ما هي إشكالية مطروحة في صميم وجوهر السياسة، ببعدها الأكاديمي والنظري، وتتمثل في الجدال التاريخي بين المدرسة المثالية والمدرسة الواقعية، والذي لم يستطع أن يحسمه أهم مفكري العلوم السياسية لغاية الآن.
والإشكالية تتجلى في المقاربة الفكرية التي ينطلق منها كل من منظّري المدرستين: هل المبادئ والأخلاقيات يجب أن تكون حصراً هي المحرك للعمل السياسي، وفي جوهره وأهدافه، أم يجب أن نحكم على الظاهرة السياسية بنتائجها، أي بما تحققه من نتائج سياسية، بغض النظر عن الوسيلة المستخدمة لذلك؟
واقعياً، يعاني العديد من الأحزاب اللبنانية من هذه الإشكالية السياسية التقليدية، وقد يكون التيار الوطني الحر من أكثر المتأثرين بها - بشكل أكثر علانية على الأقل - وذلك لكثافة المخزون المثالي والمبدئي في أدبيات التيار الوطني الحر، بالإضافة إلى تجربة سياسية عمرها 20 سنة، قام خلالها العماد عون بتنشئة جيل بكامله على قيم فكر ليبرالي، مفعم بالكثير من المفردات المعيارية والقيمية المثالية، سرعان ما اصطدم - هذا الجيل - بتجربة السلطة والحاجة إلى ممارسة براغماتية واقعية، لم يعرفوا كيف يتعاملو معها بسهولة.
قد يكون هذا الجدال بين المثالية والواقعية بالضبط، هو الذي أدّى إلى انهيار "14 آذار" وتفكُّكها نهائياً، وهو ما جعل "تيار المستقبل" يتحوّل إلى أجنحة ضمن الحزب الواحد، وأوجد فجوة بين القيادة والجمهور الذي أغرقته قيادته بدعوات لمعرفة الحقيقة وإحقاق العدالة، وحماية الوجود والكيان من حزب الله، ثم عادت لتمارس براغماتية واقعية، فتحاوره وتجلس إلى جانبه على طاولة مجلس الوزراء.
من هنا، تبدو انتخابات بيروت بمنزلة إنذار لجميع القوى السياسية لأخذ العبر، فالتجارب ليس دروساً بحد ذاتها، إنما التقييم الذي يجري واستخلاص العبر والدروس منها هو المعلّم الأكبر.