في أي انتخابات تجري في العالم اليوم نشاهد قاسماً مشتركاً يجمع بينها على كل أصقاع الأرض ألا وهو تعب الناس من الطبقة السياسية والبحث عن حلول وممثلين من خارج هذه الطبقة مهما كان الثمن أحياناً. وما مرشحو الانتخابات الأميركية إلا دليل قاطع على هذا الأمر وكذلك ترجل ديلما روسيف وحتى انتخابات البلديات في لبنان وبالأخصّ في عرسال. الظاهرة جديرة بأن تدرس وأن يتم استخلاص الدروس منها والبناء على هذه الدروس بشكل وقائي حيثما أمكن ذلك. ولكن قبل البناء على الدروس لابدّ من أن نتوسع في فهم الدروس المستفادة من هذه الظاهرة. لاشك أن أول هذه الدروس هو الرفض الشعبي للنفاق السياسي حيث يعتقد معظم سياسيي العالم أنهم ينظرون من برج عاجي وأنّ المحكومين أقلُّ منهم وعياً وإدراكاً وقدرةً. اليوم تعبّر الشعوب في مختلف البلدان، وعلى مختلف المستويات، أنها لن تصمت بعد اليوم عن هذا الاستهتار بقدراتها وأنها سوف ترفض هذه الطبقة السياسية حتى وإن كانت الرؤيا غائمة أو تقود إلى المجهول. لقد نسي، أو تناسى، الكثيرون أن العدل أساس الملك وأن الإنسان هو خليفة اللـه على الأرض وأنّ العزّة لله فقط. كما تمادى حكام ودول في الظلم والاستكبار فقرّر المستضعفون في الأرض أن يقولوا كلمتهم ويرفعوا أصواتهم في وجه الطغيان. علّ هذه الظاهرة مازالت في بدايتها ولكني أتوقع أن تستنسخ في بلدان عدّة وأن تشكل حركة عالمية باتجاه فرص الإنصات لصوت الشعوب التي تُتخذُ القرارات باسمها وتتشكل الحكومات وترفع المنصات ويفرش السجاد الأحمر وتبنى القصور باسم تحقيق مصالح هؤلاء والسهر على أمنهم وراحتهم. من هذا المنظور يمكن لنا أن نفهم الاحتمال الكبير لفوز دونالد ترامب بترشيح الحزب الجمهوري الذي اعتبر مجرد نكتة في بداية ترشيحه. فقط الآن يتم التفكير بالأسباب التي قادت إلى فوزه في ولايات عدّة وقد تقود إلى دخوله البيت الأبيض.
ونحن العرب نعيش الذكرى الثامنة والستين للنكبة، كما نعيش نكبات شتى على امتداد الجغرافيا العربية، لابدّ لنا من أن نتدارس عوامل القوة والضعف في تقديم قضيتنا، قضية الأرض، والاحتلال الإسرائيلي العنصري، واغتصاب الحقوق، وماذا خضنا في هذا المضمار، وكيف خضناه، وما المعطيات الجديدة التي يجب أن نتحرك وفقها كي لا نعيش الذكرى المئة ونحن نحيي ذكريات من دون أن نتمكن من تحرير أسرانا أو الانتقام لشهدائنا أو تحرير أراضينا من دنس الاحتلال وإعادة أهالينا اللاجئين والنازحين والوافدين إلى ديارهم المقدسة. ونحن نحيي هذه الذكرى لابدّ لنا من أن نتوقف مليّاً عند الظاهرة الجديدة التي تدحرج رؤوس السياسيين ونبني خططنا المستقبلية على أسس عصرية تتناسب وروح العصر الجديد ومشاعر وتحركات الشعوب. أول ما علينا فعله هو التخلّي عن الفكرة التي أصبحت قانوناً في سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم وهي أن المتفوقين يدرسون الطب والهندسة وأنّ الأطباء والمهندسين هم بناة الأوطان، من دون التقليل من شأن وأهمية الأطباء والمهندسين، فإن الفلسفة والعلوم الإنسانية والفكر كانت عوامل القوة الأساسية للعرب إذ ازدهرت مكتباتهم وشعرهم وتفكيرهم ونشروا النور في العالم في الوقت الذي كانت أوروبا تغطّ في ظلام عميق. واليوم كي يعود العرب إلى مرحلة ضيائهم وكي يواجهوا النكبات المتتالية التي حلّت بهم، بعد النكبة الأم، نكبة فلسطين، عليهم أن يراجعوا خطواتهم وأن يعترفوا بجرأة وشجاعة أين أخطؤوا وأين أصابوا.
علّ أحد أسباب استمرار هذه النكبات هو عدم إعطاء الأولوية للفكر والتخطيط والاستقراء الذي يوفر الوقاية قبل العلاج، وعدم تقدير العلم والعلماء حقّ قدرهم واللجوء إلى ردود الأفعال والتخبط من دون وجود إستراتيجية واضحة تقود الخطا وتُنير الدروب لتحقيق الأهداف المقررة سلفاً. منذ السبعينيات وحتى اليوم تراجع مستوى التعليم في العالم العربي بشكلٍ مرعب وتراجع مستوى الجامعات وتراجعت في المجتمع برمته حظوة المفكرين والكتاب والمبدعين بحيث يرقد بعضهم في مشافي دول غريبة عرضة للعوز والفاقة بعد أن قضوا عمراً حافلاً بالعطاء وبثّ الفكر وشدّ العزيمة وتعزيز أحلام الشباب بمستقبل أفضل.
من حيث ندري أو لا ندري تسربت فئة على مواقع القرار لا تحزن لذكرى النكبة ولا يرتجف لها رمش لاستنساخ نكبات أخرى حتى في عقر دارها لأن همّها الأساسي هو الخلاص الشخصي من خلال تكديس الثروات في الداخل والخارج.
وانتشرت هذه الفئة كالنار في الهشيم على مستوى الجغرافيا العربية وأخذت تخلق المبّررات لسلوكها من تحميل العروبة وزر أخطائنا إلى تحميل فلسطين وزر تخاذل بعض العرب وتواطئهم مع العدو ضدّ أبناء قومهم، إلى ترويج سياسة الانغلاق لتعزيز مخططات سايكس بيكو التي ضربت العرب في الصميم إلى التهويل بمخاطر الحليف الدولي والإقليمي على عروبتهم التي لم يقيموا لها اعتباراً أو وزناً يوماً ما إلا من أجل تقويض مصداقية أهم التحالفات لشعوبنا وبلداننا. منذ السبعينيات وحتى اليوم تراجعت عروبة المناهج المدرسية ووطنية هذه المناهج وتراجع دور الأحزاب والنقابات والمنظمات الشعبية في معظم البلدان العربية بحيث أصبحت اللغة والمصطلح والفكر فريسة لما يقدمه الطامعون والمستعمرون لنا. منذ السبعينيات وحتى اليوم تراجع دور اللغة العربية في المدارس والجامعات العربية واللغة هي أداة الفكر والإنتاج والانتماء والتحديث.
قبل أن ننتصر على الأسباب التي قادت إلى نكبة فلسطين منذ ثمانية وستين عاماً لابدّ لنا أن نتدارس النكبات التي ولدتها النكبة من خلال مراجعة شاملة وجريئة للواقع العربي المريض بعيداً عن المزايدين والانتهازيين، ومدعي الحداثة فقط من أجل خدمة أسيادهم في الغرب. فقد تكون المرحلة السياسية الجديدة في العالم موائمة لنبدأ نضالاً مختلفاً قد يثبت جدواه خلال سنوات وليس خلال عقود أو قرون.