يبدو أن المفاوضات الأميركية التركية لمعالجة الأوضاع في ريف حلب الشمالي وصلت إلى خواتيمها بعد أشهر من المشاورات الشاقة، بسبب التداخل في النفوذ والمصالح في هذه المنطقة الحساسة، حيث بدأت التحضيرات لخوض معركة كبيرة هدفها "تطهيرها" من عناصر تنظيم "داعش" الإرهابي.
في الفترة الأخيرة، قامت كل من أنقرة وواشنطن بما يشبه "البروفا" الصغيرة، لكن فصائل المعارضة السورية المصنفة "معتدلة" فشلت في تحقيق الأهداف المطلوبة منها، حيث نجح "داعش" في إمتصاص الصدمة، ومن ثم الإنتقال إلى مرحلة الهجوم، ولكن هذا لم يمنع الإستمرار في التخطيط لهذه المعركة، التي تريدها الحكومة التركية لضمان أمنها الداخلي، بالإضافة إلى إنشاء منطقة نفوذ خاصة بها، تمكنها من البقاء لاعباً أساسياً في الميدان، وتسمح لها بأن تعيد جزءاً من النازحين إليها في مرحلة لاحقة.
في هذا السياق، برزت العديد من المؤشرات التي ينبغي التوقف عندها، أبرزها إعلان مساعد وزير الخارجية الأميركي، أنطوني بلينكن، عن التوصل إلى اتفاق مع أنقرة لـ"تطهير" المنطقة الحدودية، الممتدة بين منبج ومارع في ريف حلب من وجود "داعش"، من خلال زيادة الدعم المقدّم لقوات المعارضة السورية، بعد أيام على إعلان وزير الخارجية التركية مولود جاويش أوغلو أن بلاده ستنشر، في شهر أيار، على حدودها مع سوريا، صواريخ من طراز "هيمارس" وذلك بالاتفاق مع الولايات المتحدة، وبالتالي تحضير الأرضية المناسبة لقيام حملة عسكرية بعد ضمان الأمن التركي، في ظل التهديدات التي يشكلها "داعش" عبر استهدافه بعض البلدات الحدودية.
بالتزامن مع ذلك، كان وزير الخارجية السعودي عادل الجبير يؤكد موقف الرياض من الأزمة السورية، بالنسبة لمصير الرئيس بشار الاسد، في وقت كانت فيه المعلومات تصل عن تزويد فصائل من المعارضة بأسلحة متطورة، خصوصاً أن التجارب السابقة أثبتت عدم قدرتها على الصمود، في ظل المعدات التي بين يديها في الوقت الحالي، في حين عملت الولايات المتحدة على تأمين مظلة دبلوماسية لأدوات المشروع المحلية، عبر إجهاض مشروع قرار روسي في الأمم المتحدة، ينص على تصنيف حركة "أحرار الشام" و"جيش الشام" منظمتين ارهابيتين، تحت عنوان مشاركتهما في مشاورات جنيف، بالإضافة إلى شمولهما في اتفاق وقف إطلاق النار، بغرض الاستفادة منهما في المعركة المنتظرة، في وقت لم يعد خافياً على أحد بأن الفصيل الأول يحظى بالدعم التركي-القطري المباشر، في حين أن الثاني هو الابن المدلل للمخابرات السعودية.
في هذا الإطار، تأتي المعلومات عن تشكيل ما يسمى "جيش الشمال"، من دون الإعلان عنه رسمياً من قبل أي جهة معنية حتى الآن، لكن التسريبات التي صدرت عن فصائل في المعارضة تكشف أن مهمته الأولى ستكون في ريف حلب الشمالي، ضمن المشروع التركي الأميركي الذي تم الاتفاق عليه، حيث من المفترض أن يتم استثناء جبهة "النصرة" منه، بهدف ضمان الدعم الأميركي المباشر، بالإضافة إلى الدعم التركي طبعاً، نظراً إلى أن واشنطن لا يمكن أن تقدم الدعم لفصيل مصنف من قبلها إرهابياً بشكل علني.
وعلى الرغم من الأسئلة الكثيرة التي من المفترض أن تطرح حول موقف "النصرة" من المخطط، ينبغي الإشارة إلى الضربات الجوية الدقيقة التي استهدفت قادتها في الأشهر الاخيرة، والتي نجا منها أميرها أبو محمد الجولاني أكثر من مرة، فهي مؤشر على الرغبة بالقضاء على القيادة التي ترفض الانفصال عن تنظيم "القاعدة"، لكن في حال فشل هذا المشروع ستكون الجبهة هي الهدف الثاني بعد "داعش"، مع العلم أن القضاء على الجناح المتشدد فيها سوف يقود القسم الأكبر من مقاتليها إلى الالتحاق بالفصائل المُصنفة "معتدلة".
ما تقدم، يقود إلى خلاصة واحدة، تصب باتجاه استبعاد التوصل إلى حل سياسي في سوريا في عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما لأسباب عدة، أبرزها غياب الأرضية العسكرية المناسبة، وبالتالي المطروح هو استمرار السعي إلى تحسين أوراق القوّة في الفترة الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية في بلاد "العم سام"، أما الحكومة الروسية فهي لا تبدو متحمسة إلى "المغامرة" بفتح جبهة في مدينة حلب، قد تضعها في مواجهة مع حلف شمال الأطلسي "الناتو"، الذي لن يقبل المسّ بالأمن التركي، بينما هو يسعى إلى محاصرة موسكو عبر منظومات الدرع الصاروخي، لكن ماذا عن الدورين الإيراني والسوري؟
من حيث المبدأ، ستبقى "النصرة" في مواقعها لمنع أي محاولة لإنهاء معركة حلب، ضمن حرب استنزاف إطارها وقف إطلاق النار، بالتزامن مع سعي الفصائل الأخرى إلى تحقيق ما هو مطلوب منها في الريف الشمالي، أما في حال حَسْمِ القوات السورية والايرانية قرارها فهي أمام خيارين: الأول هو الذهاب إلى المعركة بغياب الدور الروسي المساعد، ما يعني عدم القدرة على الحسم سريعاً، أما الثاني فهو حضور هذا الدعم في سياق اتفاق بين موسكو وواشنطن، غير معلن، يقضي بتقاسم مناطق النفوذ أو العمل، بحيث يكون الريف الشمالي من حصة واشنطن وحلب المدينة من حصة موسكو.