بعد بيروت وزحلة، لم تجر رياح جبل لبنان كما تشتهي سفن "التيار الوطني الحر"...
من التحالفات غير الواضحة إلى النتائج المخيّبة مروراً بالمفاوضات العبثية التي أحاطت بالمعركة منذ اليوم الأول، الصورة تكاد تكون واحدة، مهما قيل ويُقال وسيُقال: لا "تسونامي" ولا من يحزنون، والساحة لا تزال تتّسع للجميع، من دون استثناء.
ولعلّ الأرقام التي أفرزتها انتخابات جبل لبنان، في معظم محطاتها، ولا سيما الحامية منها، تؤكد ذلك، هي التي حملت بين طيّاتها مؤشراتٍ سلبية تستدعي القراءة والتمعّن، لا التجاهل والإنكار.
خاسرٌ وأكثر!
في جبل لبنان، وبعكس زحلة، لم يكن "التيار" رابحاً على الأرض وخاسراً في السياسة، بل خاسراً في الاثنين، مع بعض الاستثناءات التي تُعَدّ على أصابع اليد الواحدة، ومنها بلدة الحدت، التي تُعتبَر عرينًا للتيار "البرتقالي"، والتي استطاع أن يحافظ فيها على "زعامته"، حتى في مواجهة "حليفه الطارئ"، أي "القوات اللبنانية".
ولكنّ نتيجة الحدت لم تكن القاعدة بل الاستثناء، الذي لم تثبّته المعارك الحامية التي دارت في مناطق أخرى، والتي تمّ تسييسها بشكلٍ واضحٍ بل نافرٍ أحيانا، على غرار سن الفيل والحازمية، حيث كانت الخسارة بطعم المرارة التي حاول البعض إلصاقها بـ"غدر الحلفاء"، خصوصًا أنّها أتت من خارج "الثقة الزائدة" التي أظهرها "التيار" في هذه المناطق في الأيام الأخيرة.
وإذا كان "التيار" حرص على إبقاء موقفه "غامضًا" و"ملوّناً" في مناطق أخرى، على غرار جل الديب والدامور، الأمر الذي سمح له بالاحتفال مع الفائز، أياً يكن، فإنّ "التجييش المبالَغ به" الذي اعتمده في المقابل في مدينة جونية، والذي وصل لحدّ نزول رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون شخصياً على الأرض، حرمه من "لذة" الاحتفال بالفوز "الخجول" الذي حقّقه، والذي أضاعت من وهجه "الخروقات" التي حقّقتها اللائحة المنافسة.
دروسٌ وعبر بالجملة...
وبعيداً عن التفسيرات التي بدأت بالخروج تباعاً لتبرير هذه الخسائر، من "لوم الحلفاء" تارةً تمامًا كما حصل في بيروت، إلى الحديث عن "مؤامراتٍ كونية" تارة أخرى، والتذرّع بالطابع "العائلي" للانتخابات البلدية أحياناً كثيرة، لا بدّ أنّ دروساً وعبراً كثيرة يجب أن يأخذها "العونيون"، خصوصًا أنّهم أول من "سيّسوا" المعركة، علمًا أنّ نغمة "كسر إرادة المسيحيين" لم تبدُ مستقيمة في جونية، التي ذهب البعض لحدّ تصوير معركتها وكأنّها "رئاسية مصغّرة"، خصوصًا أنّ "التيار" كان متحالفاً في هذه المدينة بالتحديد مع حزبي "الكتائب" و"الوطنيين الأحرار"، غير المنسجمين معه رئاسيًا كما يعلم القاصي والداني.
وفي حين نأت "القوات اللبنانية" بنفسها عن معركة جونية، وعلى الرغم من قول رئيسها سمير جعجع أنّ التفاهم مع عون أكبر من معركةٍ بلديةٍ هنا أو هناك، فإنّ الكثير بدأ يُقال عن "اهتزاز" هذا التفاهم، ليس فقط لأنّ "ترجمته" استعصت على المعنيّين في أكثر من منطقة، بل لأنّ كلامًا عالي السقف بدأ يُسمَع "عونياً" عن أنّ "القوات" ربحت على حساب "التيار"، ولعلّ "مفارقة" مسارعة النائب جورج عدوان للقول أنّ "القوات هي الرقم الصعب في الجبل"، ناسبًا لها وحدها "انتصار دير القمر" تحمل من الدلالات المعبّرة أكثر ممّا يكفي على هذا الصعيد...
"الكتائب" فعلها!
وفي مقابل الخسائر "العونية" في السياسة والميدان، ربحٌ أكيدٌ لـ"الكتائب" في السياسة أفرزته انتخابات جبل لبنان، جعل رئيسه سامي الجميل يحتفل احتفال "المنتصرين"، معلناً بكلّ فخرٍ أنّه فاز بأكثر من ثلاثين بلدية في المحافظة رؤساؤها منتمون لـ"الكتائب".
ولعلّ نقطة القوة التي استفاد منها "الكتائبيون" تكمن في التحالفات التي عرفوا كيف ينسجونها، ولعبت دوراً أساسياً وجوهرياً في النتيجة التي أفضت إليها الانتخابات، بمعنى أنّ الحزب عرف كيف يلعبها وأين يتحالف مع من، بحيث لم يجد حرجاً أن يكون في لائحةٍ واحدةٍ مع أحد المكوّنات في منطقةٍ ما وضدّه في منطقةٍ أخرى، ما جعل خسائره محدودة في الشكل والمضمون.
ولعلّ الرسالة الأهمّ التي استطاع "الكتائبيون" إيصالها هي أنّهم لم ولن يكونوا "أقلية" كما حاول البعض الإيحاء. وهم يتذكّرون في هذا السياق ما قاله "الوطني الحر" و"القوات" يوم إبرام التفاهم بينهما، لجهة تصوير القوى المسيحية التي لا تنخرط معهم فيه وكأنّها "تنتحر سياسياً"، بل ذهب البعض لحدّ تشبيهها بالحالة "الأسعدية" التي وقفت في وجه الثنائي الشيعي "حزب الله" و"حركة أمل" جنوباً.
من هنا، إذا كان صحيحاً أن قوة "الكتائب" قد لا تكون بحجم "التيار" أو "القوات"، وأنّها عرفت كيف "تقطفها" بذكاء وفطنة، فإنّ الصحيح أيضاً أنّها ضربت "التسونامي" الذي بدا "مزعومًا" في عقر داره، وأظهرت أنّ محاولة احتكار الساحة المسيحية واعتماد خطاب التحدّي والإقصاء لا يمكن أن تنجح، علماً أنّ "الكتائبيين" حفظوا خط الرجعة عندما أصرّوا على تصوير المعركة وكأنّها "عائلية إنمائية" وليست "سياسية"، حتى في بكفيا التي لا يشكّ أحد بـ"هواها الكتائبي"، بعكس ما فعله غيرهم.
ليس الخاسر الأكبر...
ليس "التيار الوطني الحر" بالتأكيد الخاسر الوحيد ولا الأكبر، نظرياً، من الانتخابات البلدية في محطّتيها الأولى والثانية. ولكنّه، عمليًا، بدا كذلك، لأنّه بكلّ بساطة اعتمد استراتيجيةً أقرب لـ"البروباغندا"، لم تحفظ خط الرجعة، وحرمته من "لذّة" الاحتفال بالمكاسب.
ليس "التيار" الخاسر الأكبر، ولكنّه المتأثر الأكبر، هو الذي سيّس المعركة إلى حدّ كبير، وهو الذي لم ينقسم على نفسه فحسب، بل أظهر انقسامه على الهواء مباشرةً، وهنا الطامة الكبرى...