«حفاظاً على الأموال العمومية وحرصاً على المصلحة العامة»، طلبت النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة إعادة النظر بقرار الديوان (2913/ ر.م. تاريخ 28/12/2015) الموافقة على تجديد عقد اتفاق رضائي بين وزارة الاتصالات وهيئة «أوجيرو»، بقيمة 176,6 مليار ليرة، «لأعمال صيانة وتشغيل وتوسعة المنشآت والتجهيزات» العائدة للوزارة.
واعتبرت النيابة العامة أن «استناد العقد إلى ما سبقه من عقود مخالِفة لا يجعله في منأى عن الرقابة، ولا يجيز مخالفة قواعد الصلاحية والاختصاص وتجاوز حدود السلطة في إبرام العقود... ذلك أن ما بُني على باطل فهو باطل حكماً». ورأت أن قرار وزير الاتصالات بتمديد العقد «مشوب بعيب تجاوز حدّ السلطة ومستوجب الإبطال».
القرار الذي وقّعه المدعي العام لدى ديوان المحاسبة القاضي فوزي خميس في 3 آذار الماضي يشكّل صفعة لكل من وزير الاتصالات بطرس حرب ورئيس هيئة «أوجيرو» عبد المنعم يوسف الذي تزداد مصاعبه هذه الأيام. إذ إن العقد ــــ الفضيحة يتضمّن مخالفات قانونية واضحة لم يتوقف عندها ديوان المحاسبة الذي وضع موافقته عليه. وهو يعطي «أوجيرو» صلاحيات واسعة، هي أساساً في صلب وظائف مديريات أخرى في الوزارة (مديرية الاستثمار والصيانة ومديرية الإنشاء والتجهيز) من دون مرسوم صادر عن مجلس الوزراء. كذلك يعتريه الغموض لجهة غياب أي ذكر للتفاصيل الفنية أو تحديد للأعمال والتجهيزات والمواد المطلوبة، وعدم إرفاقه بدفاتر شروط فنية تحدد المواصفات، وتعيينه لجنة استلام للأشغال تضم موظفين تابعين لـ «أوجيرو» لاستلام الأشغال من «أوجيرو» نفسها!
وقبل الخوض في تفاصيل قرار خميس، تجدر الإشارة إلى أولى الفضائح التي يتضمنها العقد الموقع بين «المديرية العامة للاستثمار والصيانة ممثلة بوزير الاتصالات» كفريق أول، و«هيئة إدارة واستثمار منشآت وتجهيزات شركة راديو أوريان السابقة (أوجيرو) ممثلة برئيس مجلس الإدارة المدير العام« كفريق ثانٍ. وبما أن يوسف هو نفسه المدير العام للاستثمار والصيانة في الوزارة، ولتفادي أن يوقّع عقداً مع نفسه كرئيس مجلس إدارة «أوجيرو» كما جرت العادة، فقد قرّر حرب أن يمثّل يوسف في التوقيع على العقد كفريق أول، مع يوسف نفسه كفريق ثانٍ! علماً أن توقيع الوزير محل المدير العام يبقى مسألة شكلية، إذ إن يوسف سيبقى هو الرقيب على نفسه في تنفيذ مندرجات العقد ما دام يجمع بين وظيفتين لا يجوز الجمع بينهما.
واللافت أيضاً أن العقد المذكور لا يعتمد الدفع إلى هيئة «أوجيرو» على أساس الكلفة الفعلية للأشغال المتعاقد عليها، بل يكرر الصيغة القديمة التي سمحت بتراكم الأموال في الحسابات الخاصة للهيئة، خلافاً للقوانين والأنظمة المرعية الإجراء، أي إن وزارة الاتصالات ستحوّل الأموال بالقيمة المحددة في العقد من دون إلزام «أوجيرو» بتقديم فواتير تفصيلية تتيح مراقبة الإنفاق ووجهاته بجدّية وشفافية.
بالعودة إلى قرار المدعي العام لدى ديوان المحاسبة، فقد تضمّن «العديد من الملاحظات والشوائب والمخالفات» التي تعتري ملف العقد وفقاً لما يأتي:
ـــــ يشير العقد في عنوانه إلى قيام الهيئة بصيانة وتشغيل وتوسعة المنشآت والتجهيزات العائدة لوزارة الاتصالات، «وهي مواضيع تخالف قواعد الاختصاص والصلاحية المحددة في القوانين والمراسيم المنظمة لكل من الوزارة وأوجيرو».
ــــ ورد في المادة الثالثة من العقد تكليف «أوجيرو» بـ «صيانة وتشغيل وتصليح كافة الكوابل البحرية والسعات الدولية العائدة لوزارة الاتصالات». وهذا ما يخالف المادة الأولى من المرسوم 5613 (5/4/1994) التي حصرت مهمات «أوجيرو» بأعمال الصيانة للمنشآت والتجهيزات العائدة للوزارة، وأوجبت صدور مراسيم في حال تكليفها أي مهمات أخرى. وخلص المدعي العام إلى أن «تشغيل الكوابل البحرية والسعات الدولية يخرج عن نطاق المهمات التي كلفت أوجيرو بها، وتحتاج ممارستها إلى إصدار مرسوم مهما كانت السوابق، لأنها في الأصل صلاحيات تعود للمديرية العامة للاستثمار... التي تخضع في ممارستها لرقابة ديوان المحاسبة المسبقة وليس للرقابة المؤخرة في ما لو تمت ممارستها من قبل أوجيرو، وهذا ما يشكل تخطياً لقواعد الصلاحية والتفافاً على أنظمة وإجراءات وأصول الرقابة، ما يجعل العقد مشوباً بعيب عدم الاختصاص ومخالفاً للقوانين والأنظمة النافذة».
ــــ تضمّن العقد في مادته الرابعة: «تشمل أشغال التأهيل والتوسعة في السنترالات الهاتفية، الاتصالات، الكوابل البحرية، الهاتف للعموم، المنصة الذكية، DSL، محطات الطاقة، المولدات، المباني، الشبكات الرئيسية والثانوية، مشاريع الألياف الضوئية، وكل ما يلزم لتأهيل وتوسعة الشبكة الهاتفية». ورأى قرار خميس أن هذه كلها «تدخل في صلب مهام وصلاحيات المديرية العامة للإنشاء والتجهيز»... الأمر الذي يجعل العقد السابق العائد لعام 2015 وقرار الوزير بتمديد العمل به لغاية 31/12/2016 «صادرَين خلافاً للقانون... ولقواعد الاختصاص والصلاحية... ما يجعل قرار الوزير بتمديد العقد مشوباً بعيب تجاوز حدّ السلطة ومستوجباً الإبطال... لكون الصلاحية في موضوع توسيع مهمات أوجيرو وتكليفها مهمات إضافية يتطلب صدور قوانين ومراسيم تحدّد ماهية هذه الأعمال بطريقة صريحة وواضحة لا تحمل التأويل أو التفسير».
ـــــ استند العقد إلى المادة 147 من قانون المحاسبة العمومية التي تجيز عقد الاتفاقات بالتراضي في ما يتعلق باللوازم والأشغال والخدمات التي يمكن أن يعهد بها إلى المؤسسات العامة. ورأى القاضي خميس أنه «لا يستقيم قانوناً التعاقد على أمور تخرج أصلاً عن صلب صلاحيات أوجيرو المحددة في نصوص إنشائها أو المكلفة بها وفقاً للقوانين تبعاً لمبدأ التخصص في ممارسة نشاط المؤسسة العامة وفقاً لما هو وارد في نصوص إنشائها وتنظيمها».
ــــ تعليقاً على قرار ديوان المحاسبة «بالموافقة على المشروع شرط تشكيل لجان الاستلام... استناداً إلى المادة 139 قانون المحاسبة»، أشار خميس إلى أنه «بغض النظر عن مدى جواز أو عدم جواز صدور قرارات بالموافقة مشروطة بأمور قد تحصل أو لا تحصل، ومصير هذه الموافقات في حال عدم التزام هذه الشروط، فإنه يقتضي إثارة مسألة مدى التزام قرارات الموافقة الصادرة عن الديوان، وما إذا تم تشكيل هذه اللجان وفق الأصول القانونية، بعدما تبيّن في قرار صدر عن الوزير بتاريخ 23/4/2015 تحت عنوان تعيين رئيس لجنة استلام (...) أن موضوعه هو تشكيل لجنة استلام أشغال من أوجيرو، وأن أعضاء اللجنة موظفون في المديرية العامة للاستثمار وملحقون بأوجيرو نفسها، علماً أن المادة 139 نصّت على أن تستلم اللوازم والأشغال والخدمات في كل وزارة لجنة تعين بقرار من المدير العام (وليس الوزير)، على أن تضم ثلاثة موظفين ينتمي أحدهم إلى الوحدة التي جرى التلزيم لمصلحتها، ويكون الآخران من خارجها». وعليه، خلص خميس إلى أن لجنة الاستلام «تشكّل مخالفة صريحة لنص المادة 139، ما يجعل الشرط الوارد في قرار ديوان المحاسبة غير متحقق».
ــــ تضمن العقد أن كلفة التأهيل والتوسعة تبلغ بحد أقصى 85 مليار ليرة تدفع على أساس محاضر تضعها لجنة الاستلام في مهلة لا تتجاوز ثلاثة أيام، وهو ما رأى فيه خميس «مهلة غير معقولة وقصيرة لا تسمح للجنة بالتأكد من مطابقة الأشغال للمواصفات والشروط الفنية، علماً أنه لم يتبين أن العقد أرفق بدفاتر شروط فنية تحدد في ضوئها الشروط والمواصفات، ما يجعل شرطاً فنياً من شروط التنفيذ المتعلقة بالكميات والمواصفات وجودة الخدمات والأشغال المنفذة من أوجيرو غير متحقق، الأمر الذي لا يمكّن المعنيين في الوزارة وهيئات الرقابة من التحقق من مدى التزام الهيئة العقود الموقعة».