انتصر آل الحريري في صيدا، ولأن عدة الشغل في النصر الصيداوي كانت مؤلَّفة من الرئيس الحريري والعمّة بهية وأحمد الحريري والرئيس السنيورة، بصفته "ربيب" بيت الحريري، فإن هذا "النصر العائلي" لا ينفي تأكيد المؤكَّد الذي ورد في دراسة أجراهاالخبير الانتخابي عبدو سعد في تشرين الأول من العام 2015؛عن ضمور في تأثير الأحزاب على الجماهير، وأن الحزب الخاسر الأول في دراسته هو"تيار المستقبل".

"تيار المستقبل" الذي قام بالأساس على الشخصانية العائلية، لم يتسنَّ له التجذر في البيئة السُّنية، ليس فقط بسبب الغياب المبكر لمؤسسه الرئيس رفيق الحريري، وعدم إمكانية نجله سعد على أن يكون البديل المقنع لاستكمال ما يُعرف بـ"مشروع رفيق الحريري"، نتيجة ضعف الأداء السياسي والشحّ المالي، بل بسبب ميل الشارع السُّني تاريخياً للتنوُّع السياسي، خصوصاً بعد مسلسل الخيبات في الرهان على "الربيع العربي"، وتشرذم هذا الشارع بين الانتماء القومي العربي سياسياً، والانتماء الديني المعتدل، وموجة "الإسلام السياسي" المعاصر التي بلغت عند البعض حدود تكفير أي آخر.

وفي تقييمه للوضع الانتخابي البلدي لـ"تيار المستقبل" على امتداد الخارطة اللبنانية، يقول الخبير سعد: لم يكن هناك مفرّ للرئيس سعد الحريري من خوض الانتخابات البلدية في بيروت وصيدا، بالنظر إلى رمزيتهما، لكن نتائج بيروت أثبتت أن الحريري كان يمكن أن يُخرق أو يُهزم لو تحالفت لائحة "بيروت مدينتي" مع الوزير السابق شربل نحاس وبعض الرموز الناشطة على المستوى الإصلاحي. أما في صيدا فإن تدنّي نسبة الاقتراع فيها عن العام 2010، هي نتيجة عدم توفُّر المال الانتخابي كما كان في الانتخابات الماضية. ويتابع سعد: "الحريري دخل في توافقات في كافة المناطق الأخرى، ومن ضمنها طرابلس، ومعركته في طرابلس تحديداً بمواجهة ميقاتي والصفدي وكرامي، إضافة إلى الخصومة مع ريفي، كانت حكماً ستكون خاسرة بالنسبة إليه"، وعكار أيضاً ستثبت، كما أثبت البقاعان الأوسط والغربي، ألا وجود يُذكر لـ"تيار المستقبل" كحركة سياسية جماهيرية بعد الآن.

"تيار المستقبل" منذ بداياته ما هو سوى مؤسسة عائلية، برداء سياسي حزبي، وانهياره الجماهيري في عكار وطرابلس وبيروت والبقاع جاء نتيجة العجز الخدماتي لمؤسسات الحريري بالدرجة الأولى، وإذا كانت الخدمات اليومية الخاصة التي تؤديها النائب السيدة بهية الحريري لأبناء صيدا والجوار، كانت العامل الأساس في الانتصار على أسامة سعد، فإن هذا النصر اليتيم هو عائلي بامتياز، وليس كافياً لإعادة إحياء تيار سياسي هو ذاهب على الأرجح الى التقاعد، ومراكز "المستقبل" لن تكون مستقبلاً سوى مكاتب لآل الحريري، ومراكز خدمات شخصية ضمن ما تسمح به الظروف، لإقطاعية عائلية جديدة سلاحها المال لكسب الفئات المحتاجة، وانتهى الإقطاع السياسي على "14 آذار"، خصوصاً على المكونات المسيحية، نتيجة علاقة عدم الثقة مع "القوات اللبنانية"، وانحسار حصة النواب المسيحيين مستقبلاً، والذين يحملهم حالياً الرئيس الحريري في "جيبه"، مهما كان قانون الانتخاب العتيد.

العائلية التي تحكم على "المستقبل" كتيار سياسي بالتقاعد، يعاني من بعضها التيار الوطني الحر، لأن نتائج الانتخابات أثبتت أن العماد عون لم يخسر في جونيه، لكنه لم ينتصر كما يستحق في عاصمته السياسية، وخسائره في المتن ليست فقط في أنه كان بحاجة إلى التحالفات لمواجهة "محدلة" المُر، بقدر ما أن "التيار" عاش إرباكات الأداء الضعيف وغير الملتزم لنوابه، وليست النتيجة الساحقة الماحقة في الحدت ذاك المؤشر على أن "التيار" موجود سياسياً على الأرض، بقدر ما أن الحدت قلعة عونية؛ كما وصفها المناضل العوني الأقوى النائب حكمت ديب، والفوز في جزين كان أيضاً عونياً، وكانت بلدة "المكنونية"؛ مسقط رأس العماد عون، عروس المهرجان طيلة النهار، لاستدرار التعاطف مع "ابن جزين"، ونتائج جبل الريحان لصالح المرشح الفائز أمل أبو زيد أثبتت أن حزب الله كان السند الأول للفوز، وأن الرئيس بري انكفأ فعلاً عن المنازلة في انتخابات فرعية.

الأزمة العائلية التي يعاني منها التيار الوطني الحر ليست في رئاسة الصهر جبران باسيل لـ"التيار"، بل في تزكية الصهر لرئاسة تيار يحمل لواء الاحتكام لرأي الشعب، فكانت التزكية بداية الأزمة، مع وجود مناكفة داخلية، إلى أن كانت معركة جونية، فنزل العميد شامل روكز إلى ساحة معركتها البلدية، كقائد لبناني تطغى صفاته الوطنية ومناقبيته العسكرية على صفة القرابة للعماد عون، وبدا وكأنه ليس فقط الخليفة المنتظر لرئاسة التيار وإعادة جمع الشمل العوني المشتّت، بل لتأمين استمرارية "العونية" كحالة شعبية مسيحية وطنية، تحتاج دائماً إلى ترياق مدرسة الجيش اللبناني، لأنها في الأساس وليدة المؤسسة العسكرية ورافضة للفكر الميليشيوي، ولن تستمر هذه الحالة النخبوية سوى تحت مظلة الجيش اللبناني وشرف الانتماء إلى العسكر، وإذا كان لا بد للتيار الوطني الحر أن ينمو ويتطور، فإن العميد شامل روكز هو المنقذ دون سواه، وقدر هذا التيار أن استمراريته هي رهن ارتباطه بقيادة الضباط المتقاعدين، ليبقى التيار الجارف على امتداد لبنان، حاملاً لواء الانتماء للعسكر، والتحالف مع المقاومة ضمن المعادلة الثلاثية: "الجيش والشعب والمقاومة".