خلطت الانتخابات البلدية الأوراق جميعها في لبنان؛ تبدّلت التحالفات واختلطت وظهرت قوى وتراجعت أخرى، وبدا أن الديمقراطية هي المنتصر الوحيد في هذا الوطن، بعدما تبارى المسؤولون في نحرها بالتمديد لأنفسهم خلافاً للقانون والدستور.
لقد حجّم اللبنانيون جميع القوى السياسية بدون استثناء، فلم تسلم أي قوة من هزائم كبرى في ساحاتها، ما يشير إلى أن الاتجاه السياسي العام من الآن فصاعداً يجب أن ينحو بقوة نحو التواضع ومعرفة القدرات الحقيقية، وعدم الوقوع في فخ وإغراء وهم فائض القوة الشعبية.
لعل ما حصل في طرابلس وقبله في بيروت، من صدمات لـ"تيار المستقبل"، وقبلها الصدمات التي تعرّضت لها القوى السياسية الأخرى، يفيد بأن هناك حاجة لمراجعة جذرية لكل الخطاب والسلوك السياسيّين لمختلف الأطراف اللبنانية، التي تحتاج إلى إعادة تقييم شاملة لكل مسارها السياسي منذ خروج الجيش السوري من لبنان ولغاية اليوم، فما حصل بالتأكيد يؤشّر إلى عهد جديد لن تستطيع بعده الطبقة السياسية أن تقود جمهورها وتشدّ عصبه إلا بتغيير جذري للخطاب السياسي، بحيث تستعمل أولاً الصدق والنزاهة، وتبتعد عن القرارات الفوقية التي لا تقيم وزناً لجمهور ولا لرأي عام، ثانياً.
لطالما عرفت العلوم السياسية والعلاقات الدولية ظاهرة الازدواجية بين الخطاب والسلوك السياسي (النفاق)، فقد كانت أكثر التصرفات السياسية عدوانية ولا أخلاقية، تتدثر بغطاء قيمي مثالي، وترفع شعارات أخلاقية جذابة تجعل من الصعب على الناس العاديين عدم تأييدها. وقد تكون السياسات الاستعمارية الاوروبية في القرن التاسع عشر التي رفعت لواء "جلب الحضارة والتمدن" للشعوب المستعمَرة، ثم شعارات "حقوق الإنسان" و"الديمقراطية" التي رافقت حروب جورج بوش، أكبر مثال على الازدواجية تلك. واقعياً، إن أكثر دعاة التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى، هم المثاليون الذي يعتبرون أن حقوق الإنسان تفرض واجب التدخل لحمايتها، علماً أن ما من تدخّل إلا وسبّب مآسٍ، أين منها المآسي السابقة للتدخل، والتي خرج هؤلاء بذريعة "الواجب الأخلاقي" لإنهائها.
قد تكون ديمقراطية الإعلام والإعلان التي سادت بعد ثورة الاتصالات، وقدرة أي كان عن التعبير عن نفسه وإبداء رأيه، قد أدخلت مفاهيم جديدة إلى الساحة السياسية، فلم يعد السياسي "المنافق" هو السياسي الناجح، بل إن حرية الوصول إلى المعلومات ووفرتها، بالإضافة إلى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وعدم قدرة السياسات التقليدية على حلّها، وانكشاف شبكات المافيات، أدت إلى تبدُّل في مزاج الناخبين. ظاهرة ترامب في أميركا، وبروز اليمين في أوروبا، تثبتان هذه الفكرة. فقد كشفت الانتخابات في أوروبا وأميركا، والانتخابات البلدية في لبنان، أنّ مَن يستطيع أن يستثمر النقمة الشعبية لدى فئات واسعة من الناخبين ضد أداء السلطات الحاكمة، ويعرف كيف يستغل شعور الإحباط وخيبات الأمل لدى لجمهور العريض من قياداته، ويحاول أن يقدم خطاباً مغايراً لكل الخطاب السياسي السابق، باستطاعته أن يحصد تأييداً شعبياً يؤهّله للوصول إلى السلطة.
نعم، تحتاج الظواهر الانتخابية اللبنانية للدراسة المعمَّقة، ولا ندّعي أن بإمكان أي أحد أن يحيط بها ويقدّم تحليلاً للسلوك الانتخابي للبنانيين في الانتخابات الأخيرة بدون دراسات ميدانية حقيقية على الأرض، لكن تستدعي ظاهرة انتخابات طرابلس وقفة تأمّل، كما وتستدعي بعض التساؤلات:
- هل فعلاً استطاع الوزير أشرف ريفي الانتصار على "محدلة" من القوى السياسية المتكتّلة ضده، لأن الطرابلسيين نبذوا الاعتدال وانحرفوا نحو التطرف؟هل يمكن أن نقول إن الرئيس ميقاتي، على سبيل المثال لا الحصر، خلال وجوده في السلطة، مارس حقًا اعتدالاً ووسطية؟ ألم يقم الميقاتي نفسه بتشجيع الظواهر الإرهابية التي خطفت طرابلس وأخرجتها من تعايشها وعروبتها، ولنا في قضية شادي المولوي التي تشارك هو والصفدي في ارتكابها، خير مثال على ذلك؟
- هل الوزير أشرف ريفي هو الوحيد الذي يطلق خطابات نارية؟ وماذا عن الخطابات الفاشية الطائفية التي تطلقها الأحزاب والمجموعات الأخرى؟ ألا يمكن أن نقول إن الطرابلسيين اختاروا ريفي "لصدقه مع نفسه وناسه"، وليس بالضرورة لتطرُّفه السياسي والطائفي؟
علّمتنا التجارب أن الأقوياء أو الأكثر تطرفاً في ساحاتهم هم الأقدر على صنع التسويات، بينما يغرق الضعفاء والوسطيون ويضيعون بين حدّين: الهجوم الذي يتعرضون له من المتطرفين على يمينهم، وحاجتهم لإثبات أنفسهم وعدم خيانتهم لمبادئهم، فيعمدون إما إلى النفاق، أو إلى إضاعة الوقت بالتردد وعدم الجرأة على اتخاذ قرارات مصيرية. لذلك، على الأقوياء في ساحاتهم أن يعرفوا أن اختراع حيثيات سياسية في الساحات المقابلة لم يعد مقبولاً، ولن يؤدي إلى تسويات وحلول.
من الأفضل للقوى السياسية في لبنان، أن تعترف ببعضها البعض، وألا تحاول أن تختار الأضعف في الساحات الأخرى للسيطرة عليها.. يصح هذا خصوصاً في الساحة المسيحية، والآن في الساحة السُّنية، لذا فلتكفّ السلطة السياسية عن النفاق، ولتعترف بأن السياسات التقليدية أفلست وباتت أعجز من أن تسيّر الرأي العام لمصلحتها.