لستُ بيروتيًا ولا من خرّيجي مدارس الحكمة الغرّاء، ومع ذلك أجدُ نفسي متشرّبًا من المبادئ التي تتبرعم عليها أجيالُها. لستُ من عشّاق ضجيج الملاعب ولا هدير طبل “باشو” ومع ذلك وجدتُ نفسي أعوامًا طوالًا أسير الأريكة والشاشة، أواكب من بعيد، أهيّص من بعيد، أشتم من بعيد ثم أصلي.
نعم، أنا أيضًا أضأتُ الشموع على شرفه، وبكيتُ فرحًا يوم حصد ألقابَه، ودمعت عيناي حزنًا يوم بدأ ينهار أمام أنظار عشّاقه. أنا أيضًا كنتُ “أجدب” تنتابني نوبات التعصيب المعوي وأصمُّ أذنيّ لصوت أمي الصارخ في وعينا الجماعي: “بلا هبل شو جايينا منن كلّن”.
أنا أيضًا خرجتُ ذات يوم الى ساحة ساسين متفرّجًا مشاركًا على طريقتي في احتفالات الفوز على غريم محلي تقليدي وآخر عربي. لم أخطئ، لم أندم على ذلك يومًا وإن شعرتُ بأن جلدي بدأ في الآونة الأخيرة يسلخ عنه إدمان ذاك النادي لا الكرة برمّتها. كان صعبًا الخروج منه وهو الذي شكّل محور صلاتي المسائية على مدى أعوام، واستنزَف من بيوتاتنا كثيرًا من الشمع ومن شفاهنا كثيرًا من التضرّعات. ربّما ذهبت سدًى وربما لا طالما أنها تندرج في إطار الواجب الديني اليومي.
أنا أيضًا حكماوي في الأصل ومع ذلك لم أكره يومًا النادي الرياضي، ولا نظرتُ الى لاعبيه من باب الحقد. غالبًا ما تمنّيتُ أن يسقط لأنشي ما بقي من اللاوعي الباطني الباحث عن خيارٍ طفولي شببتُ عليه من دون أن أفهم الأسباب، من دون أن أعرف أنه نادٍ مسيحي أو أن جمهوره يعشق قرع طبول التحايا لهذا السياسي أو ذاك.
لم يكن يومًا نادي الحكمة في نظري ناديًا قواتيًا، ولا تجرّأت يداي يومًا على الإتيان بمثل هذه الحركات التشجيعية التي تدسّ سمّ السياسة في صحن الرياضة. وكما لم أفهم لماذا أحببته لم أعِ لماذا باتت المسافة بيني وبينه تتباعد عامًا بعد آخر.
تراجعت عادة إضاءة الشموع بسحر ساحر، أغلب الظنّ لأن إيماني بنظافة كرة السلة بشكل عام تراجع. حلّ الطوفان السياسي على النادي العريق من دون أن يغرقه وإن بدا شبه غريقٍ يقاوم مخالب السياسة بلا جدوى. أصبح حضوره منفّرًا بالنسبة اليّ. نعم أقولها بخجل لكن بقناعةٍ وجرأة للمرة الأولى. بات النفور أقرب الى كره الحركات غير الرياضية التي اجتاحت الملاعب واستحضار الحكيم من سكينته في معراب والشهيد الحريري من قبره في الوسط. كثرت حركات الأيدي وتفلّتات الشفاه. كثرت عبوات المياه الساقطة في مباريات “ساقطة”. لم أهتمّ يومًا أن أعرف ما إذا كانت تلك العبوات تحتوي مياهًا مصلّى عليها أو مقدّسة ولا تعنيني فصول الهزء من كاهنٍ لم يجد سوى هذه الطريقة ليعبّر عن غبن ناديه فبات فريسة الساخرين حتى من مشجّعي فريقه. ليس لي في المياه المقدّسة التي لها استعمالاتُها الشفائية البعيدة من ملاعب كرة السلة و”فدغ” الرؤوس، ولا لي في الطائفية التي على أساسها تُفرَز الجماهير، جلّ ما لي في تلك اللعبة موسمٌ بائسٌ ينتهي بقرارٍ مكتبي. جلّ ما لي أعوامٌ أمضيتُها كآخرين أبحث في نواصي اللعبة عن مسوّغاتٍ لجمهور “أزعر” أيًا كان الفريق الذي يُحسَب عليه لا يهمّ. جلّ ما لي قرفٌ من الأبعاد السياسية والطائفيّة للعبةٍ ظنّ كثيرون منّا، نحن البسطاء السُذَّج، أنها عادت هذا الموسم الى الصراط المستقيم بعدما قدّمت نوادٍ مغمورة مستويات تفوق المتوقَّع منها.
نعم أنا الحكماوي ذو النزعة الحكماوية والهوى الحكماوي أقولها بصراحة: عصيٌّ علينا أن نهجر الحكمة، ولكن عصيٌّ علينا ألا نحترم غير الحكمة من النوادي التي لم تبلغ النهائي وهي لذلك مستحقّة. عصيٌّ علينا ألا نخشى إن خشينا حقيقة أن اللعبة ما عادت تشبهنا وأن شموعَنا ما عادت تنفع!