من الصباح وحتى المساء، في الليل والنهار، لم تمر دقيقة واحدة على اللبنانيين من دون سماعهم أو قراءتهم عبارة "فلتأخذ العدالة مجراها". من الطبيعي جداً تكرار هذه العبارة في الشارع وعبر وسائل الإعلام، في بلد تسجل فيه مع كل طلعة شمس أكثر من جريمة، بخلفيّات، تارةً إرهابية أو ثأرية وتارةً أخرى مالية أو طبية أو شخصية، ولكن ما هو غير طبيعي، في بلد تتخذ سلطته القضائية "العدل أساس الملك" شعاراً لها، ألاّ تأخذ العدالة مجراها في الغالبية الساحقة من الجرائم التي ترتكب كي لا نقول في كل الجرائم.
لن نتحدث عن نائب متورط تحتاج ملاحقته الى رفع الحصانة النيابية، ولا عن وزير مختلس يحظى بدعم فريق سياسي، ولا عن مدير عام مرتكب يتنعّم بغطاء كونه يسخّر خدمات إدارته لتيار سياسي، ولا عن رئيس بلدية إحتمى بطائفته للتهرب من مذكرات التوقيف الصادرة بحقه، ولا عن شيخ إرهابي أمّنت له عمامته التغطية اللازمة عن جرائمه الكثيرة.
نعم قصتنا هي قصة مجرم صغير، لا صفة رسمية له، متعدد المواهب في إرتكاب الجرائم، ولأنه على يقين بأن العدالة لن تأخذ مجراها معه، يكرر أفعاله من دون أي رادع.
ففي الأيام القليلة الماضية، ضجت مواقع التواصل الإجتماعي بحملة #العدالة_لشيرين التي أطلقتها جمعية "كفى" للمطالبة باصدار مطالعة النيابة العامة والتوسع في التحقيق في قضية شيرين عساكر التي قيل إنها إنتحرت في 27 آذار الفائت ولدى الجمعيّة معلومات أنها عانت ما عانته من العنف الأسري مع زوجها الموقوف، وهي لا تستبعد فرضية قتله لشيرين. لم يتذكر أحد أن جنازة الأخيرة، أدت الى قتل طفلة بريئة كانت تمشي أمام منزلها في بلدة قرطبون الجبيلية عندما أصابت رأسها رصاصة طائشة تبيّن فيما بعد أن مصدرها إطلاق نار في جنازة عساكر. ولم يتذكر أحد أن التحقيقات يومها أشارت الى إتهام "ب. أ." بقتل الطفلة بيتينا رعيدي، ولم يتذكر أحد أن مطلق النار خلال جنازة عساكر وقاتل رعيدي، لم يتمّ توقيفه كونه من المحميين سياسياً من قبل نائب سابق.
قتل رعيدي عبر رصاصة طائشة مصدرها مجرم طائش، لم يكن الجرم الوحيد في سجل المدعو "ب. أ". فهو نفسه الذي ومنذ أسبوع، حضر إسمه في قضية شبكة الدعارة والإتجار بالبشر، التي ألقي القبض عليها في مبنى قيد الإنشاء في الصفرا، بعدما توافرت معلومات عنها الى مكتب مكافحة الإتجار بالأشخاص وحماية الآداب في وحدة الشرطة القضائية، وتبين في التحقيقات أن المجرم الصغير "ب. أ." كان يتلقّى اتصالات من "الزبائن" على هاتفه الخاص، ويقوم هو بدوره بإرسال السيدات عبر سائقين خاصين يتعاون معهم، إلى المكان الذي يحدده المتصل. اللافت في الأمر أن القوى الأمنية ألقت القبض على شبكة الدعارة، لكن المجرم الصغير الذي يديرها بقي حراً طليقاً، كل ذلك على رغم ملفّه الحافل بإدارة شبكات الدعارة، منذ أن بدأ والده ينشط على هذا الصعيد ولا يزال حتى اليوم.
نعم هو نفسه المجرم الصغير "ب. أ." الذي كان إسمه نجم ملفّي قتل بيتينا رعيدي وشبكة الدعارة في الصفرا، لديه ملف آخر بتهمة إطلاق النار وإصابة شاب عشريني بعطلٍ دائم. ملفّ عالق منذ سنوات أمام القضاء الذي يسمح بكل شيء إلا بأخذ العدالة مجراها.
في بلد لا يلاحق فيه المجرم الصغير، هل يفيد السؤال بعد عن العدالة ومجراها في قضايا كبرى؟