في خضم التحولات التي تشهدها المنطقة، جاء التدخل العسكري التركي في سوريا ليزيد من المشهد تعقيداً، نظراً إلى أنه يقلب الصورة القائمة في مناطق الشمال رأساً على عقب، لا سيما بعد أن وضع على رأس قائمة أهدافه ضرب "قوات سوريا الديمقراطية"، إلى جانب الهدف المعلن لدى كل القوى الراغبة في التدخل بالحرب السورية، أي تنظيم "داعش" الإرهابي.
منذ أشهر طويلة، كانت أنقرة تخطط لمثل هذه الخطوة، تحت عنوان المنطقة الآمنة، لكنها كانت دائماً تصطدم بالمواقف الدولية المعارضة، لا سيّما من جانب روسيا، التي كانت العلاقة معها قد اضطربت على خلفيّة حادثة إسقاط الطائرة، إلا أنه منذ الإنقلاب التركي الفاشل طرأت معطيات جديدة، أبرزها التقارب مع موسكو والتوتر في العلاقة مع واشنطن، في وقت لا تملك الولايات المتحدة، حتى الساعة، خيار التخلي عن تركيا، فهل يكون الأكراد، مرة جديدة، الورقة الأضعف في لعبة الأمم الكبرى؟
منذ زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الشهيرة إلى موسكو، ومن ثم إستقباله وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، بدأ الحديث عن إحتمال ولادة تحالف جديد بين الدول الثلاث يشمل بصورة غير مباشرة سوريا، في حين كانت الولايات المتحدة تراقب التطورات بحذر، مع علمها بأن الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي لا تستطيع الذهاب بعيداً عنها، وهو الأمر الذي تبيّن من خلال الحرص على إظهار أن العملية العسكرية التي حصلت في جرابلس تمت بضوء أخضر منها، خصوصاً أن طيران التحالف الدولي هو من أمّن الغطاء للقوات البرية المتحركة على أرض الواقع.
في الصورة العامة، ظهر الأكراد بوصفهم الخاسر الأكبر من هذا التحول الجديد، لا سيما بعد الرسالة التي وجهت لهم من جانب الحكومة السورية في الحسكة، بالإضافة إلى إدراكهم بأن كلا من أنقرة وطهران لن يوافق بأي شكل من الأشكال على مشروع الفيدرالية التي أعلنوا عنها، قبل أشهر قليلة، في الشمال السوري، وهو ما يفسر مسارعتهم إلى وصف التدخل التركي بالإحتلال، لكن ما هي الخيارات التي لديهم؟ وهل تسمح الولايات المتحدة باندلاع المواجهات بين حلفائها؟ وهل يأتي حل الأزمة السورية على حسابهم؟
ما بين "داعش" والأكراد
يؤكد مدير المركز الكردي للدراسات نواف خليل، في حديث لـ"النشرة"، أنه لو كانت أنقرة تريد القضاء على "داعش" لما كانت على خلاف مع المجموعات التي تقاتله على أرض الواقع، ويسأل: "لماذا لم تتحرك عندما كان يسيطر على تل أبيض، حيث كانت الحدود مفتوحة بين الجانبين؟"، ويشير إلى أن إغلاقها تم بعد سيطرة قوات "حماية الشعب الكردي" عليها، في ظل حملة إعلامية وسياسية غير مسبوقة لتشويه سمعتها.
ويشدد خليل على أن الحدود التركية مع الأراضي التي تسيطر عليها قوات "سوريا الديمقراطية" لم تشهد أي خرق يُذكر، في حين أن العالم بات يتحدث عن أن تركيا أصبحت منصّة للجماعات الإرهابية، ويضيف: "هل يمكن لعاقل أن يتصور أنه بعد تحرير أغلب المناطق، التي كان يسيطر عليها "داعش"، تذكرت أنقرة ضرورة الدخول إلى جرابلس لحماية حدودها".
بالنسبة إلى خليل، الهدف التركي من هذه العمليّة هو ضرب المشروع الذي اتّفق عليه الأكراد مع باقي المكوّنات في الشمال السوري، ويشير إلى أنّ اللافت هو حصول الهجوم في اليوم الذي يزور فيه نائب الرئيس الأميركي جو بايدن أنقرة، ويرى أن واشنطن تفرّق بين تركيا "العدالة والتنمية" وتركيا الدولة، فالثانية هي المهمة بالنسبة إليها، ويؤكد أن الولايات المتحدة لم تقدم أي دعم للأكراد، إلا بعد أن فقدت الأمل من كل مجموعات المعارضة المسلحة، وبعد أن أثبتوا قدرتهم على الصمود بوجه "داعش" في كوباني.
من جانبه، يوضح رئيس المعهد التركي العربي للدراسات الإستراتيجية ابراهيم بوعزي أن العملية العسكرية التركية في الشمال السوري تأخرت كثيراً، لكنه يعتبر أن حصولها اليوم يعود إلى تطهير المؤسسة العسكرية من الجهات التي كانت تعرقلها، ويذكر بأن الأراضي التركية كانت تتعرض لقصف منذ ما يقارب 6 أشهر.
ويشير بوعزي، في حديث لـ"النشرة"، إلى المعلومات عن ضوء أميركي لتركيا من أجل القيام بهذه العملية، لكنه يذكر بأن أنقرة كانت تنفذ عمليات سابقة في إطار قواعد الإشتباك، وينفي الحديث الجديد عن منطقة آمنة على إعتبار أنها لم تعد ممكنة، ويضيف: "أنقرة كانت تطالب بهذه المنطقة في السابق، لكن الإرادة الدولية لم تسمح بهذا الأمر، لأن الدول الكبرى كانت تدمير سوريا".
بالنسبة إلى الحكومة السورية، تبدو الأمور أفضل مما كانت عليه في السابق، على الرغم من البيان الصادر عن وزارة الخارجية والمغتربين الذي يدين التدخل التركي، حيث يشير أستاذ العلاقات الدولية في جامعة دمشق بسام أبو عبدالله، في حديث لـ"النشرة"، إلى أن الخطوة التي قامت بها أنقرة منسقة مع موسكو وطهران بشكل مباشر، ومع دمشق بصورة غير مباشرة، ويذكر بأن تحليق الطيران التركي فوق الأراضي السورية كان ممنوعاً في السابق من جانب روسيا، التي لم تطالب في تعليقها على هذا الحدث إلا بالتنسيق مع دمشق.
ويوضح أبو عبدالله أن الأتراك تدخلوا لضرب "داعش" ومنع نشوء كيان كردي على حدودهم، ويعتبر أن أنقرة لم يكن من الممكن أن تصمت على وصول قوات "سوريا الديمقراطية" إلى جرابلس، ويعتبر أن هذا الأمر قد يساهم في فتح بوابة التنسيق بين أنقرة ودمشق، خصوصاً بعد أن أصبحت مصالحها الأمنية والسياسية مهددة.
هل يدفع الأكراد الثمن؟
هذا الصراع بدأ يحتدم إثر استيلاء "سوريا الديمقراطية" على مدينة منبج، لا سيما بعد أن عبرت قوات كردية، للمرة الأولى، إلى غرب نهر الفرات في تجاوز واضح للخطوط الحمراء التركية، نظراً إلى مخاوف أنقرة من تشكيل إقليم كردي على حدودهم الجنوبية، المتاخمة لمناطق الأكراد في تركيا، في حين يسعى أكراد سوريا إلى السيطرة على جرابلس لإكمال الإقليم الخاص بهم، نظراً إلى أن مدينتي أعزاز وجرابلس تفصلان بين مقاطعات الإقليم.
إنطلاقاً من هذه المعطيات، يرى خليل أن كلا من واشنطن وموسكو لا يريدان أن يكون الأكراد أقوى مما هم عليه اليوم، نظراً إلى التوازنات الإقليمية والدولية، لكنه يشدد على أن قوات "سوريا الديمقراطية" تعتبر أن الدخول التركي هو بمثابة إحتلال، ويعتبر أن الأمر سيكون إختباراً للحديث الأميركي خلال إشتباكات الحسكة، ويسأل: "هل ستسمح واشنطن بضرب قوات "سوريا الديمقراطية" بعد أن حذّرت الحكومة السورية من الإقدام على مثل هذه الخطوة؟"
من وجهة نظر خليل، على روسيا وأميركا التدخل لوقف التدخل التركي السافر، ويؤكد أن مسألة الإنسحاب غرب الفرات شأن داخلي، ويسأل: "هل تريد أنقرة من الإنسحاب عودة "داعش" إلى المناطق التي تم تحريرها؟"، لكن السؤال الأكبر بالنسبة له هو حول إمكانية ذهاب تركيا إلى ما بعد جرابلس، لأن الأكراد سيقاومون أي إعتداء عليهم.
بالنسبة إلى بوعزي، الهدف التركي اليوم هو وقف الإعتداءات من جانب الإرهابيين، سواء كانوا من عناصر "داعش" أو من "قوات حماية الشعب الكردي"، ويلفت إلى أن العمليات قد تشمل كل الشمال السوري، ويعتبر أنه ربما على واشنطن اليوم التخلي عن الأكراد، فهي عليها أن تعرف أن الحليف الأساسي هو أنقرة لا الميليشيات المسلحة، خصوصاً أنها الممر الأساسي للطاقة من وسط أسيا إلى أوروبا، ويضيف: "في مطلق الأحوال تركيا تضربهم سواء وافقت أميركا أم لم توافق".
من جانبه، يذكر أبو عبدالله بأن واشنطن ليس لديها وعود قاطعة بل مصالح دائمة، ومن هذا المنطلق هي لن تحمي الأكراد في حال وقوع الصدام مع تركيا، خصوصاً أنها تؤكد أن التعاون معهم عسكري فقط، وبالتالي هي إذا وجدت أن مصالحها في الجانب الآخر أكبر لن تبقى في مكانها.
ويعتبر أبو عبدالله أن الولايات المتحدة تستخدم جميع الأوراق، وهي لديها مشروع كردي في الشمال السوري لكن في حال لم تكن قادرة على تطبيقه ستعمل على الإستفادة منه، ويضيف: "حكماً هي لن تذهب إلى الصدام مع تركيا وسوريا وإيران وروسيا من أجلهم"، ويؤكد بأن منع نشوء كيان كردي هو مصلحة مشتركة بين طهران ودمشق وأنقرة.
في المحصلة، دخل الشمال السوري مرحلة الإرباك بشكل رسمي، حيث تتداخل المشاريع والمصالح الإقليمية والدولية على نحو غير مسبوق، ولكن هل بدأت مرحلة التسويات؟