عودة مصر إلى سياسة الاستدانة من صندوق النقد الدولي الذي وافق على منح القاهرة قرضاً بقيمة 12 مليار بشروط قاسية تلزم الحكومة المصرية بتنفيذ حزمة من الإجراءات التقشفية والضريبية التي تصيب الفقراء وأصحاب الدخل المحدود طرحت سؤالاً قديماً جديداً بشأن المآل الذي تسير فيه السياسة المصرية الاقتصادية والاجتماعية في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي.
فالاستدانة من صندوق النقد جاءت في سياق معالجة أزمة عجز الموازنة العامة البالغ 230 مليار جنبيه فيما الدين اقتربت نسبته من 100% من أجمالي الناتج المحلي، في وقت وصل عبء الفائدة على الدين إلى 300 مليار جنيه سنوياً، ، لكن هل هذه السياسة الاقتراضية بشروط الصندوق الدولي ستقود إلى حل الأزمة المالية التي تعاني منها مصر ؟
أم أنها ستزيد من حدتها ؟ .
ـ ثم ماذا عن الآثار والنتائج الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على تمادي السياسة المصرية في الارتهان والتبعية لشروط صندوق النقد الدولي؟.
من الواضح أن الوضع المالي الصعب لمصر ولجوئها إلى طلب الاقتراض من صندوق النقد الدولي مكن الأخير من فرض شروطه المجحفة التي كانت مصر قد رفضتها في أعقاب ثورة 30 يوليو.
والشروط التي وافقت عليها الحكومة المصرية وبدأت بتنفيذها تمثلت بالتالي:
ـ خفض الدعم على الطاقة.
ـ تجميد الأجور في الموازنة .
ـ تقليص الزيادات لقطاعات الصحة والتعليم.
ـ فرض ضريبة القيمة المضافة على السلع والخدمات.
ـ رفع ضريبة الكهرباء والمياه والغاز ومختلف المرافق الخدماتية.
هذه الإجراءات التي بدأت الحكومة المصرية بتنفيذها وأكملها البرلمان بالمصادقة على قانون القيمة المضافة بنسبة 14 بالمئة على الاستهلاك، لن تقود كما هو واضح إلى إخراج مصر من أزماتها الاقتصادية والمالية والاجتماعية، بل على العكس تماماً فهي ستزيد من حدة هذه الأزمات في الفترة المقبلة، وستجعل الدولة المصرية أكثر تبعية وارتهاناً لصندوق النقد، ومن يقف وراءه من الدول الغربية، وفي المقدمة الولايات المتحدة الأميركية التي أذنت للصندوق بالموافقة على القرض بغية تطويع مصر للسياسات الأميركية بعد أن تكون قد غرقت بالديون وباتت بحاجة دائمة إلى مساعدة أميركا لدى الصندوق للموافقة على إعادة جدولتها وإعطائها قرضاً جديداً.
هذا الاستنتاج ينطلق من أن حزمة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة المصرية استجابة لشروط صندوق النقد ستؤدي عملياً إلى التالي:
أولاً: زيادة الضرائب عبر المباشرة التي تصيب الفقراء وذوي الدخل المحدود، ورفع الدعم عن الطاقة وزيادة فواتير الخدمات العامة ستؤدي إلى تعميق حدة التفاوت الاجتماعي بزيادة الأعباء على الفئات الشعبية التي تعاني أصلا من صعوبات العيش واشتركت في الثورة بعفوية جامحة تطلعاً منها لتحقيق نظام يحقق العدالة الاجتماعية ويخرجها من واقع الفقر والعوز الذي ترزح تحت وطأته.
وظهر بوضوح انحياز السلطة إلى جانب رجال الأعمال والمال عندما خضعت لضغوطهم بالامتناع عن فرض أعباء ضريبية على المستثمرين الأمر الذي تجلى في تعديل قانون الضريبة على تعاملات البورصة وأرباحها وتخفيضها، ولهذا يبدو واضحاً أن تأمين الموارد لخفض عجز الموازنة يجري من خلال تحميل عامة الشعب المزيد من الأعباء ما يقود إلى اضعاف القدرة الشرائية للمصريين وتفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
ثانياً: في مقابل ذلك فان القرض لن يؤدي إلاّ إلى تجميد مؤقت لأزمة الموازنة والسيولة بالعملات الصعبة، وسرعان ما تعود أزمة الموازنة إلى الظهور مجدداً بعد زوال مفعول هذا القرض، فالحكومة ستكون عندها أمام أزمة أكثر حدة حجماً ونوعاً، لأن الدين ارتفع وبلغ عتبة 53 مليار دولار، واستحقاق فوائد الدين زادت بدورها ودنت مواعيد تسديدها، وبالتالي العجز بالموازنة سيكبر هو أيضا، وهذا ما يعني الدخول في حلقة مفرغة.
مثل هذا المآل يعزز منه أن مصر شهدت في سنة 2013 تدفقات مالية بالدولار، أكثر بكثير من قيمة القرض الجديد، ومع ذلك لم تحقق النتائج التي عولت عليها بالنهوض بالاقتصاد وتحسين مستوى المعيشة، فيما مشروع توسيع قناة السويس الذي كلف الدولة عدة مليارات لم ينتج الفائدة المرجوة منه.
من هنا فان سياسة الهروب إلى الأمام في التمادي في الاستدانة من الخارج وتطبيق شروط الصندوق الدولي، لن يقود إلى معالجة جذرية للازمة، وإنما مجرد مسكن مؤقت.
ثالثاً: إن هذه الإجراءات الصعبة التي تردد كثيرون على مدى سنوات طويلة في اتخاذها، كما قال الرئيس السيسي، الذي أعلن أن الناس خافت نن اتخاذها، وأنه لن يتردد هو في اتخاذها، مشيراً إلى ضرورة تقليص حجم الفوائد في الإدارات الحكومية وشركات القطاع العام الممولة من الدولة، أن هذه الإجراءات ستؤدي أيضا إلى زيادة حدة التوتر الاجتماعي لاسيما مع عودة التحركات الشعبية المطلبية ، ما يضع نظام الرئيس السيسي أمام واقع جديد يتسم بالآتي:
ـ ارتفاع منسوب الغضب الشعبي من سياساته الاجتماعية الجديدة، واحتمالات انفجار الاحتجاجات على نطاق واسع.
ـ افتقاده التأييد الشعبي الذي يتمتع به نتيجة رهان المصريين عليه في تحقيق تطلعاتهم بالتغيير وتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية من ناحية، ونتيجة مواجهة مصر لأولوية التصدي لخطر الإرهاب في سيناء من ناحية ثانية.
انطلاقاً مما تقدم فان العودة إلى سياسة الاقتراض من صندوق النقد الدولي وتطبيق شروطه التقشفية القاسية ليست هي الحل للأزمة، بل هي هروب إلى الأمام لن يقود سوى إلى زيادة ارتهان مصر للدائنين واستطرادا للدول التي تقف وراء إملاء شروط الدين التي تكبل مصر بقيود التبعية الاقتصادية والسياسية والأمنية بعد أن يتم إغراقها بالدين وفوائده.
من هنا ليس هناك من حل لأزمات مصر إلاّ بإعادة النظر الجذرية في النهج الاقتصادي والاجتماعي النيولبيرالي الذي انتهجه نظام مبارك في السابق، ولا زال مستمراً حتى اليوم، والعمل على استبدال هذا النهج بنهج يعتمد سياسات اقتصادية تنموية مستقلة توفر فرص العمل وتحقق النمو الاقتصادي الحقيقي، وتردم الهوة بين الواردات والنفقات في الموازنة والتخلص من العجز فيها، وبالتالي تحسين مستوى المعيشة وتحقيق العدالة الاجتماعية.