نجحت السلطة نجاحاً باهراً في تقديم نموذج ديموقراطي راقٍ لم يألفه اللبنانيون منذ سنوات طويلة. جلس نواب الأمة إلى مقاعدهم يتأبطون ملفات تعني شؤون ناخبيهم. وفي مقابلهم تمترس الوزراء خلف طاولتهم، وأمامهم تقارير بخطط وانجازات إداراتهم التي سيسألون عنها. جلسة مساءلة للحكومة أعادت إلى البال أيام عمل السلطات وانتظام الدستور... ولكن في الشكل.
جلسة المساءلة موضع ترحيب شعبي عارم لكثرة الملفات المعيشية العالقة في أدراج الوزارات. والأهم لتعدد فضائح الفساد ونهب المال العام الذي يدفع المواطنون من جيوبهم اثماناً باهظة بسببها، أثمان تذهب لصناديق أرباب النظام، لا لتمويل المشاريع العامة. ما علينا من حيث الشكل كانت جلسة ممتازة. الحضور كان منضبطاً نواباً ووزراء. الالتزام بوقت الجلسة انتظم على ساعة سويسرية. عدد الأسئلة التي تم طرحها أربعة. علما أن الجدول ضم ستة عشر سؤالا. الردود بمعظمها حمّالة أوجه، واكتفت بمتابعة الموضوع عبر الأطر القانونية. أما المظهر الديموقراطي الأبرز فكان أن تولى نائب رئيس المجلس النيابي إدارة الجلسة لغياب رئيس المجلس بعذر صحي، ولم يعتبر الأمر انتقاصاً من، أو توسعاً لأي طائفة على حساب أخرى. وهذا دليل آخر على انتظام المؤسسات الدستورية.
ومن جديد هذا بالشكل. وللأسف بالشكل فقط. أما في المضمون، فإن جلسة مساءلة الحكومة كانت أبعد ما تكون عن السلوك الديموقراطي. ولا أحد يعلم لماذا لجأت الحكومة والبرلمان إلى هذه المسرحيّة التي لم تحقق سوى تذكير اللبنانيين بعقم مؤسساتهم وفسادها. بعدما هبت عليهم من جديد، عبر ما تابعوه على شاشات التلفزيون، روائح المطامر وغبار الكسارات ودخان سرقات الهاتف والانترنت والكهرباء.
من غير المفهوم مثلاً، كيف تخضع حكومة لم يمض أربعون يوماً بعد على نيلها الثقة للمساءلة، وهي لم تبدأ بعد دراسة الملفات العالقة منذ أيام الحكومات السابقة كأزمة معالجة النفايات وسلسلة الرتب والرواتب وغيرها من القضايا التي تحتاج إلى دراسات وتقديرات خبراء. ومن غير المفهوم أيضا، كيف تكون مساءلة جدية والسائل والمسؤول ممثلان في الحكومة والبرلمان معاً. علماً أن الغالبية التي منحت الحكومة الثقة أو التحالف الذي شكلها كفيل بإنتاج تسويات تحبط أي محاسبة فعلية.
لو كان النظام جدياً في اعتماد إرساء مبدأ المحاسبة الديموقراطي لوجد طرقا أقصر ووسائل أفضل، كتفعيل أجهزة الرقابة القائمة ورفع الصدأ عن ديوان المحاسبة، ومجلس الخدمة المدنية، والتفتيش المركزي، ومجلس شورى الدولة، التي أصبحت أحكامها بلا قيمة وللاستئناس ولا صيغة تنفيذية لها في عدد من القضايا الفاضحة، وأبرزها ما صدر من أحكام، على سبيل المثال لا الحصر، ضد جمع عبد المنعم يوسف لأكثر من منصب في اوجيرو، أو جمع ضرائب من دون موازنات أو تلزيمات في عدد من الوزارات.
لو كان النظام جدياً في مسألة المحاسبة لأقر فصل القضاء عن السلطة السياسية التي تعين المدعين العامين وتحدد مراكز القضاة. فصل السلطات أساس النظام الديموقراطي، وهو عندنا مغيب. ولايزال صارخاً نموذج القاضي الاتحادي الأميركي الذي وضع حداً لقرار تنفيذي أصدره رئيس الولايات المتحدة ضد مواطني سبع دول اعتبرها إرهابية. وعادت وصادقت عليه محكمة الاستئناف رغم التماس أقوى رئيس دولة في العالم.
ومن قبيل الجدية أيضا كان الأجدى بالحكومة إصدار مراسيم تطبيقية لقانون الشفافية التاريخي الذي أقره النواب الشهر الماضي. قانون حرية الوصول للمعلومات.
وللتذكير إلى اليوم لاتزال بعض عقود المشاريع العامة سريّة حتى على النواب. عقد سوكلين نموذجاً. هذا غير تفعيل عمل وزارة مكافحة الفساد التي استحدثت في الحكومة الحالية.
أما المعيار الديموقراطي الأهم في المساءلة والذي غاب عن الحكومة والبرلمان معاً في مسرحيتهما الاخيرة، فهو دورية الانتخابات وإقرار قانون لاجرائها يؤمن عدالة التمثيل وصحته. الحكومات تسقط بالانتخابات والناس تحاسب المسؤولين المنتخبين بصناديق الاقتراع فقط لاغير. هي مسرحيّة لأن وسيلة المساءلة الأمضى كانت غائبة ولاتزال مغيبة. تنتهي المسرحية باقتراح قانون انتخاب يقره مجلس النواب ويكون بداية لإنتاج سلطة تخضع للدستور والمحاسبة. وكل ما عدا ذلك استغباء للبنانيين ولو كانت النوايا حسنة. والخوف كل الخوف أن تكون مسرحية المساءلة مقدّمة لمسرحيّة أشنع منها، تنتهي بقانون انتخاب هجين يعيد إنتاج السلطة ذاتها، ونخسر الأمل بالتغيير.