شكّلت شخصية الأمين العام لحزب الله السيد "حسن نصر الله" عقبة معقّدة أمام المشروع الجذري الإسرائيلي في المنطقة، حتى صارت مسألة تصفية هذا الرجل حاجة حيويّة وضرورة وجوديّة للاسرائيلي، الذي يقوم على أساس إيديولوجي يمنح فلسطين لليهود، وفق معادلة توراتية زائفة: أرض الميعاد لشعب الله المختار. وإزاء هذه المسألة اليهودية كان السيد "حسن نصر الله" يتبنّى خطاباً عقائدياً نقيضاً للعقيدة الصهيونية، مما فجّر ذعراً وجودياً في الحيّز الحيوي للشعب اليهودي، وبالتالي زعزع ركائز البُنية النسقية للمجتمع الإسرائيلي، خاصة بسبب تزامن خطابهِ مع انتصارات ميدانية عسكرية أعطتهُ قوّة الاقتران الإثباتي، الأمر الذي أدّى إلى ضرب أهم عناصر الاقتدار الإسرائيلي وهو الجيش الأسطوري المنتصر أبداً. لذلك وضعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة هدف اغتيال سيّد المقاومة ضمن أولوياتها على امتداد العقدين الأخيرين، كما كان هذا الهدف هاجساً استخبارياً محورياً لبرنامج الموساد.
تعدّدت الأولويّات الإسرائيلية الساعية إلى التخلّص من السيد "نصر الله"، واتخذت أشكالاً متنوّعة: تجنيد شبكات العملاء لاستغراق نطاقه الجغرافي، ورصد تحرّكاتهِ أثناء احتفالات الحزب، والعمل على وضع سلّة ورود مفخّخة فوق منبرهِ، ومحاولات اختراق قادة في المقاومة لتسهيل الوصول إليه، والتخطيط لاستهدافهِ بصاروخ ذكي أو بغارة جويّة خاطفة مثلما كان مقرّراً في احتفالية يوم القدس، وصولاً إلى الحروب التي شنّها الاسرائيلي على لبنان واضعاً ضمن غاياتِهِ اعتقاله أو اغتياله، لكن كلّ هذه المساعي باءت بالفشل، ذلك أنّ جهاز "حماية المقاومة" قد ضبطَ الفضاء الجيو-أمني لحزب الله، وجهاز "حماية السيد" يتحرّك وفق مسلك وقائي يستحيل اختراقه، مما دفع بالإسرائيلي إلى انتهاج وسائل أخرى لتصفية قائد المقاومة، ربّما تكون نتائجها أكثر خطورة من قتلِهِ الفعلي.
إنّ معرفتي الدقيقة بالعقل الإسرائيلي وشروحاتي العميقة حول الدينامية الوجودية له، التي أرسيتُها ضمن كتابي "زلزال في أرض الميعاد"، قادتني إلى تشخيص التقنيات الإسرائيلية الجديدة الهادفة إلى اغتيال السيد "نصر الله". فقد انتقل الإسرائيلي اليوم من محاولة قتل السيد "كشخص" إلى محاولة قتلهِ "كشخصيّة"، وهنا بالتحديد موضع الخطر على حزب الله كمنظومة متكاملة، باعتبار أمينهِ العام هو المُنظِّم النّسقي والمُقنّن الضبطي لأجهزة المقاومة ومجتمعها الجهادي. إنّه محور البرمجة الذاتية الجماعية التي تؤمّن استقرار وتوازن الحزب في حراكِهِ المقاوم، وكذلك في تيسير المسارات العلائقية الوظيفية للمقاومة، حتى أصبح رمز الشخصية الإقليمية لحزب الله ولهويّتهِ الوصلية ورؤيتهِ الجهادية. كما صار رمز الانتصارات بالنسبة إلى محور المقاومة، ورمز الهزائم بالنسبة إلى إسرائيل، لدرجة أنّه أثارَ قلقاً توراتياً وشكّاً وجودياً في الذات الجماعية الهوامية البُنيوية لليهود، أي فكرة شعب الله المختار. لذلك بات من ضرورات البقاء والقوة عند الإسرائيلي قتل هذا الرمز.
أدركَ الإسرائيلي أنّ مشكلتهُ مع السيد "نصر الله" لا تكمنُ في شخصِهِ كفرد بل في شخصيّتهِ كحالة، لأنّه تجاوز فردانيّتهُ الخاصة إلى حالة جماعية عامة، وانتقل من موقعيّة قائد مقاوِم إلى موقعيّة حالة مقاومة، فارتقى إلى مستوى الظاهرة المقاوِمة المتنامية في المنطقة والعالم، وبالتالي فإنّ قتلهُ الفعلي الصريح قد يؤدّي إلى تعاظم حالتهِ الظاهراتية، وبالتالي يحوّلهُ إلى أسطورة مُلهمة لكلّ حركات المقاومة والشعوب في المنطقة، مما يعني أنّ القضاء على شخصِهِ سيكرّس شخصيّتهُ بشكلٍ أكثر عمقاً وتأثيراً، هذا فضلاً عن التبعات العسكرية التصعيدية التي قد تؤدّي إلى نشوب حربٍ شاملة معه لا تُحمد عُقباها. لذلك لم يعُد الإسرائيلي يهجس بتصفية السيد "نصر الله" عضوياً وجسدياً، بل بدأ العمل على تصفيتهِ معنوياً وقيمياً، لتدمير "البراديغم" أو النموذج الذي يمثّلهُ، أي قتل الرمز.
إنّ قتل الرمز يستدعي أولاً إسقاط هالة القداسة عنه لأنّ الرمز مقدّس دائماً، وكذلك نزع المثلنة عنه بالتبخيس، وتنزيلهِ من المستوى الكلّي العام إلى المستوى الجزئي الخاص. لذلك تتعرّض شخصية السيد "نصر الله" منذ أعوام لحملات تشويه منظّمة عبر وسائل الإعلام الدولية الخاضعة للميديا الأميركية، فتشويه الرموز بالدعاية المضادة هي من أقدم التقنيات الأميركية المستخدمة في الحروب الباردة، لأنّها تدخل ضمن مسار القوّة الناعمة. ونحن نرصد اليوم الكثير من المسلكيّات الإعلاميّة المنحرفة في العمل على تهشيم شخصية أمين عام حزب الله: كإظهاره في أفلام كرتونية ومقاطع كاريكاتورية بصورة قبيحة، والتجنّي عليه في النشرات الإخبارية والتقارير السياسية، والافتراء على حزبه بالصفقات المشبوهة في تجارة المخدّرات وتبييض الأموال، واتهام قادته بالتورّط في أعمال إرهابية كان آخرها اغتيال رئيس الحكومة الأسبق الشهيد "رفيق الحريري"، والإيعاز إلى قادة الحركات التكفيرية والإعلاميين المعادين بإطلاق ألقاب سلبية سخيفة على السيد، وازدحام وسائل التواصل الاجتماعي بالشتائم والإهانات الموجهة إليه... كل ذلك يدخل ضمن لعبة إسقاط القداسة عن الرمز بهدف تبخيس قيمته المثالية وتنزيلها من مرتبتها العُليا الرفيعة إلى مراتب دُنيا وضيعة، وبالتالي تفقد رمزية القائد صورتها المُثلى المؤثرة في أوجِدة ونفوس الجماهير، وذلك عبر تقنية "التشريط الكلاسيكي" الذي يربط الرمز المثير باستجابات سلبية في أذهان الجماعات. كما تسعى الماكينة الإعلامية ذات المحرِّكات الأميركية الإسرائيلية إلى تنزيل شخصية السيد "نصر الله" من مستوى المدارية إلى حيّز المحورية عبر تقنيّة "الاختزال"، حيث تُختزَل بها شخصيّته من قائد عربي إسلامي أممي إنساني إلى زعيم لبناني شيعي حزبي فئوي، مما يكرّس وضعيّتهُ في "أفق الجذب التنازعي" مع المنظومات الاجتماعية والسياسية والعقائدية الأخرى. وإذا راقبنا موقعيّة السيد "نصر الله" اليوم في العالم العربي نلاحظ مدى تقهقرها وانحسارها بسبب الخطاب الإعلامي المعلّب الذي تستهلكُهُ شعوب المنطقة عبر وسائل التواصل الخاضعة لها، والتي ترسل المادة الدعائية المطبوخة بالسمّ إلى أذهان الناس من خلال تقنية "التلقّي العائم" والذي يؤدّي إلى "إجتياف التأثير"، وبالتالي يقوم العقل الباطن لدى المتلقّين بإوالية "التبّني اللاشعوري" للمعلومة الكاذبة، ثمّ "التعميق المفاهيمي" لها، وبعدها يتمّ "التثبيت الإنطباعي" وتتحوّل الدعاية الخادعة إلى قناعة. وهكذا تجري وتنجح لعبة السيطرة على العقول والجماهير، بحيث أنّ كلّ مثير موجّه ومقنَّن يحرِّك في نفوس وأذهان الجماعات الاستجابات التي يريدُها مدراء الماكينة التواصلية، حتى تصل إلى مستوى "الإيحاء الأمري" الذي يشكّل أعلى مرحلة في التحكّم بالعقول.
إنّ هذه التقنيّات-العاملة على اغتيال السيّد "نصر الله" يومياً-أسميتُها السمّ الأثيري البطيء، لأنّه لا يتطلّب احتكاكاً أو تماساً مباشراً مع الشخص المستهدَف، ولا يتألّف من مادة عضوية ملموسة، بل يفرض تأثيراته الخطيرة عن بُعد، وتظهر نتائجهُ بشكل تدريجي بطيء، حيث يتطلّب وقتاً طويلاً لتحقيق هدفه النهائي. لذلك فإنّ المقاومة اليوم مدعوّة إلى تكثيف جهودها في ميدان مواجهة هذا المشروع التصفوي الكبير لسيّدها، والبدء مباشرة بتشخيص وفهم وتحليل وإدراك ومكافحة المخطّط الأميركي الإسرائيلي الذي يتمّ انجازه عبر أساليب وجبهات عديدة، منها تقنيات السيطرة الدعائية على العقل الجماعي لشعوب المنطقة بغية إقلاب المزاج العام على أي شخص أو حالة أو منظّمة يتمّ توصيفها وتصنيفها عدواً للمصالح الحيوية الأميركية والإسرائيلية في المنطقة. لذلك فإنّ تحقيق المعرفة التطبيقية بتقنيّات السمّ الأثيري الذي يعمل على تفعيل المنحى اللإرادي واللايقيني عند شعوب المنطقة سوف يسمح للمقاومة بتفعيل المنحى الإرادي واليقيني لديها، وبالتالي إيجاد الترياق المصيري لمكافحة السمّ المدسوس في المادة التواصلية التي تستهلكُها شعوب المنطقة.
*مؤسّس نظرية الأنتروستراتيجية الدولية