– لا يحتاج المتابع لأدلة كي يقتنع باستحالة إقدام مسعود البرزاني على خيار التصعيد باستغلال لحظة الحرب على داعش لفرض سيطرته على كركوك، وهو يعلم أنه ما لم يفعلها اليوم، فلن يستطيع أن يفعلها أبداً، إلا وقد وصلته رسائل تطمين، بأن دول الجوار لن تجرؤ على فرض حصر خانق على دويلة الانفصال، فإيران بدون العراق وتركيا لن تفعل ذلك، والحكومة العراقية كما الحكومة التركية تتأثران بحسابات إقليمية ودولية يفترض أنها كانت صاحبة أيدٍ فاعلة في التمهيد لخطوة البرزاني. وبقي السؤال لماذا لم تترجم هذه الوعود بالإعلان عن تأييد الانفصال؟
– الثابت حتى الآن أنّ حجم التنسيق الاستباقي العراقي الإيراني التركي قد فاجأ الجميع، وأنّ هذا التنسيق قد ذهب إلى حدّ لم يتوقعه داعمو الانفصال وأصحاب الوعود، وأنّ التحدي الوجودي الذي مثّله مشروع الانفصال لكلّ من العراق وتركيا وإيران، لم يكن في حسابات هؤلاء بحجمه وبحجم التجرّؤ لدى حكومات هذه الدول على سلوك طريق حاسم وحازم في مواجهة التحدّي، رغم التباينات التي تحكم حركة كلّ منها، والأحلاف التي تربطها سواء بواشنطن أو بدول الخليج التي تقف ومعها «إسرائيل» وراء الانفصال.
– الواضح أنّ المواقف العالية السقوف للثلاثي العراقي التركي الإيراني أربكت حسابات حلفاء الانفصال، فاضطروا تجنباً للوقوع في خسارة علاقتهم ببغداد وأنقرة، ويكفيهم ان الاستقطاب الناجم عن الاستفتاء أسقط اللعبة المذهبية التي اشتغلوا وأنفقوا عليها كثيراً، بوقوف تركيا وإيران من جهة وسنة العراق وشيعته من جهة أخرى في خندق واحد. وهاتان الضفتان هما أصل أي استقطاب مذهبي في المنطقة، لذلك رأينا الجميع يخرج مندداً بالاستفتاء، داعياً للتراجع عنه، مؤيداً موقف الحكومة العراقية ووحدة العراق.
– التأثير الأبرز للخطوات الرادعة سياسياً واقتصادياً وبدء تطبيقها بالتدريج، خصوصاً ما يتّصل منها بحركة الطيران، وفوقها الإجماع الدولي والإقليمي على دعوات التراجع عن الاستفتاء، كان على الداخل الكردي، حيث أثارت حالة من الهلع السياسي والذعر الاقتصادي، بما وصفه مراقبون أكراد بمقدمات انهيار، والمواجهة ليست إلا في بداياتها، فماذا سيحدث مع وقف تصدير النفط ومع إقفال المعابر الحدودية البرية، ومع تقدّم الجيش العراقي للانتشار في كركوك؟
– الانفصال ليس مجرد حاجة لدى البرزاني للسطو على كركوك ونفطها، أو لطيّ صفحة المال المنهوب من نفط العراق لعشر سنوات، ولا هو تعبير أحادي عن رغبة البرزاني بالتحول لقاعدة علنية للتخريب لصالح الحلف الذي جلب داعش وحاول إدارتها وإدارة الحرب عليها، وكان البرزاني من ضمنه مع أميركا و«إسرائيل» ودول الخليج. فالانفصال تعبير عن حاجة إقليمية ودولية أميركية «إسرائيلية» خليجية، لإرباك الحلف الجديد الناشئ من رحم فشل الحرب على سورية وعنوانه الثلاثي الروسي الإيراني التركي في أستانة، وقد صارت أوروبا أقرب لهذا الحلف في ضوء النتائج العبثية لحروب المنطقة على أمن أوروبا واقتصاداتها، فبدأت ملامح الاختناق بالظهور على كردستان، وتم الاستنجاد بالرعاة لتدخل سريع.
– خرج وزير الشؤون الخارجية في دولة الإمارات أنور قرقاش ليقول إن الحوار هو الحل في الأزمة الناشئة عن الاستفتاء. وخرج إياد علاوي في بغداد يتبنّى الدعوة من وراء قرقاش. وتحدث الناطق بلسان دول التحالف في الحرب على داعش، ريان ديلون يقول إن استفتاء كردستان لم يؤثر على الحرب على داعش، في ردّ علني على تصريحات أوروبية قالت إن الاستفتاء سيربك الحرب على داعش، ولحقته الخارجية الأميركية برسالة ضغط على الحكومة التركية تضمّنت دعوة الرعايا الأميركيين لمغادرة تركيا بعدما دعت تركيا رعاياها لمغادرة كردستان.
– حجم الدعم المرتبك والمتلعثم للبرزاني لن يحدث تغييراً، لأن التداعيات الناتجة عن العزلة تحتاج جرعة دعم قوية، تصل حدّ تحدي قرارات الحظر الجوي ووقف الرحلات، بالإعلان عن تسيير رحلات إلى مطارات كردستان تتحدّى الحصار ولا تعترف به، وهذا ما لا يبدو أن البرزاني سيحصل عليه، ليبقى الكلام عن الحوار غباراً لا يغيّر شيئاً طالما أن المعنيين في بغداد يرفضون الإصغاء للدعوات، ويتّجهون للخطوات التالية.
– البرزاني يقود شعبه إلى كارثة، وعلى القوى الكردية المعارضة أن تلتقط اللحظة وتبدأ التحرك لإنقاذ شعبها من الانتحار السياسي. فالتغيير في مزاج الشعوب ينضج في ساعات الأزمات بسرعة أكثر آلاف أضعاف المرات مما يحتاجه في الأزمنة الناعسة.