رغم تصدّع فريق «14 آذار»، كان سمير فرنجيه يبعث في قلوب متابعيه الأمل بغد أفضل، تتمّ فيه تسوية تاريخية، شبيهة بميثاق 1943، تُنهي الانقسام الطائفي الذي فَكّك أوصال الدولة منذ 1975، وتُعيد بناء الوطن على قاعدة «العيش معاً»، وتُقيم الدولة المدنية على أساس المساواة بين المواطنين.
فإذ بنا، نشهد، قبَيل رحيله، تسوية سياسية أعادت تكوين السلطة بانتخاب رئيس جمهورية بعد ثلاث سنوات من الشغور الرئاسي، وتأليف حكومة اتحادية توافقت على بيان وزاري، لم يتقيّد به معظم الوزراء.
ولو أردنا أن نجري جردة حساب السنة الأولى من العهد، كان علينا أن نسجل في خانة إيجابياتها استعادة التوازن بين أركان السلطة السياسية بسبب شخصية رئيس الجمهورية وصفته التمثيلية؛ وكذلك الاستقرار الأمني الذي تنعم به البلاد بفضل الجيش وقوى الأمن الداخلي.
أمّا قانون الانتخابات النيابية الجديد، فإنّ ما يَعتوره من عيوب، يحملنا على التردّد في وضعه في خانة الايجابيات؛ كذلك الموازنة العامة لسنة 2017، التي أقرّت قبل ثلاثة اشهر من انتهاء السنة، والتي تضمّنت نواقص كثيرة، فليست إنجازاً حقيقياً، بل تسوية وَضعٍ غير سليم.
وعلى صعيد عمل الحكومة، فإنّ رغبة رئيسها في التعاون إلى أقصى حدّ مع القوى السياسية التي تتألّف منها حكومته، ولا سيما «التيار الوطني الحرّ»، تُرجمَت على الصعيد العملي تقاسماً للمغانم وتوزيعاً للحصص في ما بين زعماء الطوائف الممثّلين في الحكومة.
فكل مسؤول في الحكومة يتصرّف كزعيم لطائفة، ويحاول احتكار المناصب العائدة لها في الإدارة والقضاء، غير مهتمٍّ بما يعود لأيّ طائفة أخرى، لكنه يترك شؤونها وشجونها لمَن يمثّلها في الحكومة.
هذا ما ظهر على الملأ في التعيينات الديبلوماسية والتشكيلات القضائية، التي اعتمدت فيها المحاصصة الطائفية معياراً بديلاً عن الكفاءة والجدارة في أغلب الأحيان؛ وكأنّ المؤسسات التي أنشأها الرئيس فؤاد شهاب من مجلس خدمة مدنية وهيئة تفتيش مركزي لم يعد لها أيّ وجود. وقد أدى هذا إلى حالة استتباع للإدارة والقضاء في لبنان لصالح السلطة السياسية وقادة الأحزاب الطائفية، على حساب حقوق المواطنين والمصلحة الوطنية العليا.
أمّا قانون الانتخابات النيابية، الذي وُلد قيصريّاً بعد طول عناء، فقد اعتمد في آن معاً النظام النسبي في 15 دائرة إنتخابية، والنظام الأكثري عبر الصوت التفضيلي على صعيد القضاء، ونظام المشروع الأرثوذكسي بتكريسه الطائفية. وبدأنا نشاهد، مع اقتراب موعد الانتخابات، تصعيداً طائفياً وتنافساً بين الحلفاء يعيد البلاد إلى حالة الانقسام الطائفي، الذي كان من المفترض أن يكون هذا القانون دافعاً إلى تجاوزها.
وعلى صعيد الحرب السورية، فإننا لم نعتمد سياسة النأي بالنفس، بوجود جناح عسكري لحزب لبناني، مُشارك في الحكومة، يقاتل خارج الحدود، ويفاوض الإرهابيين بمعزل عن الجيش اللبناني، ويعرّض للخطر علاقات لبنان بعدد من الدول العربية، ولا سيما دول الخليج، حيث يعمل آلاف اللبنانيين.
أما بالنسبة الى قضية النازحين السوريين، فمعالجتها لا تزال متعثّرة ومقتصرة على تمنيات لم تلامس أرض الواقع. وقد استغلّ فريق من السياسيين هذه القضية لمحاولة تطبيع العلاقة مع سوريا، بحجّة أنّ عودة النازحين إلى سوريا غير ممكنة من دون التنسيق مع حكومتها، في حين أنّ هذا الموضوع يمكن أن يتم بواسطة الأمم المتحدة، وانّ التنسيق الآن مع النظام السوري لا يجدي نفعاً، فضلاً عن انّ القسم الأكبر من الشعب اللبناني، الذي عانى الأمرّين من هذا النظام، لا يرغب في تطبيع العلاقة معه.
ولعلّ مقاربة الرئيس سعد الحريري والنائب سامي الجميّل، كلّ من ناحيته، لجهة الدور الروسي، مع الأمم المتحدة، في عودة النازحين هي الأكثر واقعية في الظروف الراهنة.
إنّ هذه الصورة القاتمة عن الوضع الراهن في لبنان تزداد سواداً، إذا نظرنا إلى ما يجري في الساحة الداخلية من مَزج بين الخاص والعام، ورغبة في الاستئثار بما يتوافر من مراكز في مؤسسات الدولة، من دون مراعاة لحقوق المواطنين الذين لا ينتمون للأحزاب.
إنّ عطش بعض أهل السلطة شديد، ويبدو من الصعب إرواء غليلهم. فهمّهم الأول الاستفادة والاستزادة من المنافع التي تؤمّنها لهم السلطة. ومن العبث ثَنيهم عن ذلك، ما دام الطمع محرّكهم. لأنّ الطمع، بطبيعته، لا يعرف حدوداً، فيصحّ فيهم بيت من الشعر أقتبسه عن المتنبي:
ومن البلية عذْل من لا يرتوي عن غُلِّه وطعام من لا يشبع بالرغم من كل ذلك، لا يزال هناك أمل، وإن كان ضعيفاً، بأن يتغيّر الوضع القائم، عبر الانتخابات النيابية المقبلة. فإذا تمكّن الاصلاحيون مع المجتمع المدني من إيصال عدد من النواب الأحرار، الذين يرغبون حقيقة في التغيير، فقد يشكّل هذا مداميك أولى في بناء دولة القانون والمؤسسات، والانتقال من التسويات السياسية القائمة على المحاصصة، إلى التسوية الوطنية الكبرى، التي كان سمير فرنجيه، يحلم بها، والتي ستوصلنا في نهاية المطاف الى دولة مدنية، قائمة على التوفيق بين المواطنية والتعددية، ترعى «العيش معاً» وتؤمّن المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات.